أقلام الوسيطرأي الوسيط

ذ.محسن الأكرمين… في حضرة فرسان الضريح .

لم يكن يحتسب الثواني بالتسارع، ولا أجزاء المائة المنحدرة بالتهاوي، حتى وجد نفسه يذرف الدموع على من يفتقده. حينها استوثق من أمره رشدا، وقرر أن يقلل من تأثير الماضي المرتد نحوه وبلا تمكين الاستفادة من مفاتيح الحاضر. الآن، كان لا يحمل ثقة في طهرانية الأضرحة المحروسة من طرفي تاريخ البركات. اليوم، كان لا يحمل أسلحة حرب الوكالة حتى في صياغة الأجوبة البلهاء، ولا من إفرازات الحرية المطلقة، ولا من الحداثة الموغلة في التفسخ. اليوم، قرر ألا يكون من فرسان الضريح الأوفياء بالزيارة (النور والحلاوة)، بل آمن بأن كل نفس تمشي على تربة الأرض خطيئة حتى وإن ما صغرت ذرة الخطيئة. حيثما وصل من المدخل، تمكن من التخلص من فراغات التفكير المخضرم، دخل بقدمين راسختين نحو حارسة الضريح وبالتوجيه العرفي، وأجرى بحثا بالعيون التي تشد حتى موضع تكمش تلك القطة السوداء النائمة على رأس ضربوز مولانا سيد الضريح، والحاكم ببركاته. كان يبحث عن ذاك الميت الذي يحمل الخير في قبلته، كان يتمنى رؤية خلفية الثوب الأخضر الداكن.
في منتصف الطريق توجس خيفة داخل الضريح، وقف على تدمير الأمل الوحيد بالدوس على زهرة الزنبق بالفتك أرضا، شم رائحة بخور يحمل مكائد كذبة المكان والزمان، أبخرة مركبة بخلطة صيغة الاستفهام والتعجب (دير النية والغرض المقضي)؟!!!. لحظتها تصادم مع ذاته بلا مرآة، أحس أن ذاته العليلة تقف أمامه وتذرف الدموع عن مستقبل حياته الباقية بأزمة غير مسبوقة، سمعها تقول: بصوت مبحوح: لا مانعا أن أخسرك وأنت داخل ضريح (مول النية) ، فأنت مستعد للموت الآن، لكن فليسجل التاريخ أنّي لن أخسرك في زمن التفكير المشاكس، أنا معك، وسترافقني هويتك أينما حللت وارتحلت بالروح والجسد والتفكير.
لم يدر جوابا تاما، لا يعلم دلالة قول (نعم) بعد نفي مكرر بصياغة الكتابة والتعبير. حين تحرك بالقرب من مولانا سيد الضريح الملفوف داخل الثوب الأخضر المطرز، نال منه الخوف قسطا متمكنا بالفزع الداخلي، حين نط ذاك القط الأسود من الأعلى نحوه وهو يحمل الرعب من أنه جني أو من شرطة حماة أضرحة الموتى الجدد. حين تأنى الخطى فكر في أنه قد يكون متهورا بزيادة وهو يقتحم بالكشف عن مخفيات ما تحت الرداء الأخضر الداكن للضربوز، قد يكون ممن يحمل الهواء الذي يرتعد في صدره، حتى يصل إلى نفس الحركة الخافتة وبلا فزع، وقد أضحى بالقرب من الضربوز يحمل طاقية الإخفاء موسعة النظر والتأمل الفلسفي. علامة القهر والرطوبة قرأتها العيون في سقف الضريح المظلم من شدة أدخنة الشموع المتهاوية والمتهالكة هنا وهنالك، حتى باتت تلك الأدخنة ترسم هياكل عفاريت الضريح على سقف التخويف، كان ضريحا يفصح عن ذات بالعري وبزيارة براءة الدراويش.
في الزاوية الخفية للضريح والمهملة أصلا من العقل، وقف على مذبح الحرية في التفكير، ولا زال ماء ذاك البئر يطهر الأجساد بالبركات، ويلوث الأفكار بالتمائم، وقف أن مسألة الأخلاق باتت مسألة جماعية لا فردية، ومنكمشة بالهشاشة والخوف مثل القط الأسود الهارب من الجني البشري، في خلفية التابوت قرأ كتابة بالفحم المطلي على الحائط الندي بالرطوبة” هل تؤمن بالإله؟ قال بلا تفكير مسبق “نعم” ونعم بالله جلالا وعزة. قالت تتمة الكتابة :”إن إلهكم لا يتسامح مع الدجالين والكذابين، إنه يحرقهم بنار جهنم” قال برفعة: وثلة اليمين تعيش في مساحة جنة النعيم منتشية. هنا أدرك بالتمام أن الكتابة مثل الوشم قد تصنع الغباء، وقد تعود هيكلا لصناعة التفكير البدائي، وليست للتفكير.
لم يمهل أنفاسه التي تختنق من شدة بخور رخيص، ولا من ذاك القط الأسود الذي هوّل مدخله من نفق باب أرواح فرسان الضريح. خرج مسرعا بالهرولة، وهو يبحث عن علاقة الإنسان بالوجود، وعن ذاته التي يمكن أن يضيعها داخل ضريح مولانا السيد. فمن الفطنة وغيبوبة الذكاء تعلم صدمة الحقيقة المزيفة بين الواقع وحلم التغيير، خرج وهو يقيم في منتجع السؤال سوءا، ولم يقدر عن تخريج منطق لجواب مفيد، من نحن؟ ومذا نريد؟ أين المفر ؟ خرج و هو يكرر: من اليوم لن ألعب دور الضحية، ولا متصيد الفرص عند رؤوس الموتى، خرج و قد رفع أنفاسه سماء وزفيرا، و هو يؤمن ألا يستهلك من اليوم طين الخوف ولا الفشل، بل يود في خلق نقطة بيضاء من حلم أمل بالمسؤوليات، خرج من مذبح التفكير الارتدادي وتاريخ الدراويش، ولن يضيّق سد ماء من اليوم عن متحف الحرية.
بالفضاء السماوي وجد نفسه تشتاق إلى أنثى لم يعرفها حتى ولو في أحلامه الليلية، قال: سأقود دموعي على صدرها لأحكي لها عن كنز رحمها الطيب، رغب في التسلي بماء ناعورة التي كانت تروي الزنبقة التي داسها بالغفلة، ناعورة لن تنساه في وجوده الإنساني من الارتواء الكافي بماء الطهرانية ولو فطرة الحيوانات. في متسع نور السماء أدرك أننا نكثر الحديث عن بغي الأجساد المتبرجة، بينما نهمل جميعا عري الأخلاق الذي نعيشه من داخل فرسان الأضرحة، وحماة الموت ومتلاشيات التفكير. أدرك أن الحرية يمكن أن تصمت قهرا في داخله بلا سماع صياح ولا رجة مدوية. تعلم من أنفاسه المطولة، ومن روح السماء البهية، أن الجدل العقلاني يرتقي بآليات التفكير الوجودي. في نفسه وأحلامه المتسكعة تجنب موقعة الفراغ واستهلاك تدخين وسخ الخرافات الحديثة، اليوم بات يقرر أن يصنع ذاته ولن ينشطر تقسيما في تفكير موضع النكسة. حين انتهى خروجه من شرنقة تفكير الصندوق كليا، وجد قوته قد استنفذت باستهلاك الرتابة، لكن تساءل ، من يدري قيمة التجربة؟ قد أكون أقوى الآن…من ذي مضى !!!
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى