ثقافة وفن

عندما انتقى “موغا فيليكس” السواعد القوية للاشتغال في “مناجم اللورين”

 

ميمون ام العيد

 

كثيرة هي الأشعار التي ذكرت “مُوغَا” في أهازيج النساء وأشعار المغنين في سوس وفي الجنوب الشرقي للمملكة. تقول شاعرة إن موغا “أفرغ القرى من الرجال”، وبأنه “انتقى الأكباش في حظائر الأغنام” وأخرى تغدق عليه اللعنات وتتمنى له سوء العاقبة لأنه أبعد عنها حبيبها، وقطع به البحر نحو البلاد البعيدة. وهي تحسب في شعرها الذين اختارهم “موغا” من الأموات، ماداموا قد غادروا قراهم وتركوا أهلهم. ولم تجد شاعرة من نواحي ورززات سوى موغا فيليكس لتهجو به شابا تقدم لخطبتها، فتنتقص من قيمته ورجولته، وهي تصفه بأنه من الذين تخلص منهم موغا فيليكس، “مَامِيتْصْلْحْ القلدة نْك ولاَ الهِيبِّي نْك هَانَاوْدْ مُوغَا وْرْكْنْ إِيرِي”، أي ما معناه، “ما جدوى قامتك وتسريحة شعرك (الهِيبِّي Hippies) فحتى موغا لا يرغب في خدماتك”.

مناجم “الشاربون”

اشتغل موغا فيليكس المولود في 1926 نواحي ليل الفرنسية عسكريا فرنسيا لسنوات، قبل أن يعمل لصالح مناجم بلاده بين 1963 و1980. جاب القرى في سوس والجنوب الشرقي، لتوفير اليد العاملة القادرة على العمل في غيران الشاربون. يختار الشبان الأقوياء الذين يستطيعون العمل في ظروف سيئة بأعماق مناجم الفحم شمال فرنسا. نظر في عيون ما يزيد عن مليون مغربي. قاس أطوالهم وأوزانهم، فقد كانت له معايير خاصة به: منها أن يكون عمر العامل أقل من 30 سنة ووزنه أكثر من 55 كيلوغراما. كما فرك أيدي الكثير منهم بأصابعه، ليس مصافحة، لقد كان يبحث عن أيادٍ خشنة تصلح للعمل في الفحم. اختار 66 ألف عامل من أقوياء تلك الفترة عضليا ليشتغلوا في مناجم اللورين وغيرها.

 

طريقة الاختيار

لا تختلف الطوابير التي تظهر بين الحين والآخر هذه الأيام لاختيار العاملات والعمال للاشتغال في الحقول الإسبانية أو الفرنسية، عن الطوابير التي كان موغا فيليكس يختار منها عماله الأقوياء. يحكي الناس الذي عاصروا هذه الحقبة أن الشبان كانوا ينتظمون في طوابير طويلة، حيث يأتون من كل فج عميق عندما يعلمون بوجود موغا فيليكس في هذه القرية أو تلك. وبعد الفحص الصحي والنظر في العيون بتركيز قوي وفرك اليدين وقياس الوزن وغير ذلك للشبان الذين يقفون نصف عراة، فإما طابع أخضر يعني القبول والهجرة نحو فرنسا وإما طابع أحمر يعني الرفض والمكوث في القرية عرضة للنكت وسخرية النساء والأقران.

إلى جانب الكشوفات الطبية التي كان مرافقوه يجرونها على عشرات الآلاف من العمال بحثا عن الأقوياء، فقد كانت تلك الطوابير في الشمس الحارقة أو البرد القارس نصف عراة بمثابة اختبار على التحمل والصبر. ليختار من سيتجه إلى مراكش أو أكادير لاستكمال الإجراءَات ثم بعدها الدار البيضاء للسفر عبر البحر نحو فرنسا حيث العمل في المناجم ينتظرهم، كما تنتظرهم الكثير من الأمراض الرئوية أيضا.

طوابير موغا فيليكس

“أذكر أننا اجتمعنا في بومالن بداية السبعينيات ليختار موغا العمال. كان العدد كبيرا، فقد جاء جميع الشبان من كل النواحي، من قلعة مكونة وصاغرو ودادس وتنغير والمناطق المجاورة، وكان هناك تدافع وتعنيف من طرف المخازنية الذين يشرفون على التنظيم، وتم تعريتنا ليختار موغا القوي والأصلح للعمل”، يقول الحاج لحسن من صاغرو للجريدة، وهو الذي عاد ليستقر بالمغرب بعد أن قضى ثلاثين سنة في العمل بين فرنسا وهولاندا.

ويزيد الحاج لحسن متحدثا عن تجربته مع موغا فيليكس بعد أن كان ضمن الذين اختارهم ببومالن دادس، بإقليم تنغير حاليا، قائلا: “يتفحص العضلات، والأسنان والعينين، تماما كما يفعل من يريد شراء شاة في سوق الأغنام، وهذا ما شعرنا به ذلك الوقت، وشعر به أصدقائي. لكن الخيبة تكون كبيرة بالنسبة للذين لم يخترهم بعد كل تلك المعاناة والصبر”. ثم يردف: “بعد ذلك تنقلنا نحو أكادير على نفقتنا، لاستكمال الاجراءَات الطبية والادارية، ثم ذهبنا إلى الدار البيضاء، كانت ذكريات مريرة، لكن كل ذلك لم يذهب سدى والحمد لله والشكر”.

تغيرات

في كل قرية من قرى الجنوب الشرقي، لا بد أن تجد شخصا أو اثنين من الذين اختارهم موغا فيليكس للعمل في المناجم، بعضهم لم يستحمل ظروف العمل والبعد عن الأهل، وقرر العودة إلى المغرب، وبعضهم بقي هناك اشتغل في المناجم أو في معامل أخرى، وكثير ترك فرنسا في اتجاه دول أخرى، إلا أن وضعية هؤلاء المهاجرين وعوائلهم تحسنت كثيرا مقارنة بالذين لم يسعفهم الحظ في الهجرة، أو الذين لم يرغبوا في الهجرة أصلا.

يقول أحد أبناء الحاج لحسن وقد التقيانه في أحد الأعراس بصاغرو “ذهب والدي مع الذين اختارهم موغا، وتركنا في القرية، أمي تحكي لي دوما عن معاناتها في السنوات الأولى، حيث تركها والدي، ويقضي عيد الأضحى بفرنسا ونحن نقضيه بالمغرب. كنت صغيرا لا أذكر أشياء كثيرة، لكن أمي تقول لي بأنها عاشت كأرملة، لكن مع مرور السنوات، نجح في إلحاقنا به، وهناك ولدت أنا أبنائي، أشعر بأنني محظوظ، والشيء نفسه بالنسبة لأبنائي”.

آلاف الناس تغيرت حياتهم وظروف عيشهم بعد هذه الهجرة التي نظمها موغا للعمال الذين اختارهم في القرى والمداشر البعيدة. في شريط قديم لقناة فرنسية يعود لسنة 1989، سنوات قليلة قبل أن يتوفى موغا فيلكس سنة 1994، عاد موغا إلى سكورة وورزازات لتعقب مجموعة من المهاجرين الذين سبق أن شغلهم في المناجم الفرنسية، وعادوا بعدها للمغرب منهم متحدث في ذات الشريط قال بأنه قضى في فرنسا 13 سنة من العمل في أعماق 1300 متر وفي ظروف صعبة، لكنه عاد واستثمر في مصبنة بورزازات. قصص كثيرة لأشخاص قضوا زهرة شبابهم في فرنسا ثم عادوا بعدها لمزاولة أعمال أخرى بالمغرب.

الذين اختارهم موغى منذ ما يقرب نصف قرن، تغيرت أحوالهم، وأحوال أقربائهم وكثير من أبنائهم اندمج في البلدان الأوروبية، وأنجب أبناء هناك، منهم من تقلد المسؤولية في بلاد الاستقبال، ومنهم من انغلق على نفسه، وبقي جسدا فرنسيا بروح مغربية، وكثير من أبناء المهاجرين تسلقوا جبل النجاح نحو القمة في السياسة والفن وعالم المال وغير ذلك..

هؤلاء المهاجرون الذين قضوا زهرة عمرهم في المهجر، فيهم من قضى نحبه بسبب أمراض مزمنة في ظروف الشغل، ومنهم من ترك الشغل في الفحم واتجه لمجالات أخرى، ومنهم من عاد هاربا إلى مسقط رأسه بعد شهور فقط، لكن الغالبية الكثيرة استطاعت أن تحسن من ظروف عيشها بفضل هذا العمل كما استطاعت أن تغير محيطها، فالأجور كانت منخفضة وقتها في المغرب وبالكاد تسد الرمق.

“فئة كسولة”

سألنا عبد الرحمان عمار، باحث في قضايا الهجرة والاندماج بألمانيا، في وقال في حديث للجريدة، إن موغا فيليكس “ساهم في زلزلة البنيات الاجتماعية للقبائل، والكثير من العائلات الفقيرة تسلقت مراتب السلم الاجتماعي، وبسببه تم فك الارتباط بالحقول كمصدر أساسي للرزق، وزحف الإسمنت على القصبات التقليدية؛ لأن بيوت الإسمنت صارت رمزا للغنى المادي”.

وأضاف عمار المقيم بألمانيا أنه “بسبب موغا أيضا تفككت الكثير من الأسر وحرم الكثير من الأبناء من آبائهم بعد أن تركوهم في سن كانوا فيه بحاجة إلى القرب منهم. كما تعودت الكثير من النساء على القيام بدور الأب والأم في الآن ذاته. وبسبب موغا ظهرت فئة كسولة تعودت على الاعتماد على الحوالات المالية بالعملة الصعبة من الأب أو الأخ أو العم في أوروبا”.

جيل اليوم وجيل موغا

وجوابا على سؤال الفرق بين الجيل الحالي من المهاجرين وجيل موغا فيليكس، قال عمار: “جيل موغا كانت ظروف عمله قاسية جدا ولم يكن يشترط كثيراً، وكان يدخر كل سنْتٍ من أجل الأقارب في الوطن. كان جيل موغا يعيش في الغرب بالجسد فقط أما عقله فكان طول الوقت في المغرب. أما الجيل الجديد، فبالإضافة إلى أنه يتضمن فئة متعلمة ومثقفة درست في المغرب أو أوروبا أو تعلمت مهنا معينة، فإن فيه أيضا فئة تسعى إلى الربح السريع والسهل، بدليل امتهان الكثيرين لتجارة المخدرات”.

وأوضح المتحدث أن “الجيل الجديد جيل أناني نوعا ما، ويسعى إلى التحرر من ضغط الأسرة قدر الإمكان، وصار شراء سيارة فارهة أولى من بناء بيت أو شقة. جيل اختار الهجرة بطريقة قانونية أو غير قانونية، لكنه يصر على إسماع صوته وعلى الاحتجاج. هذا الاندفاع قاد الكثيرين إلى الجريمة أو التطرف الديني”.

بقلم: ميمون أم العيد 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى