التلاقح الحضاري بين اليهود والامازيغ في بلاد المغرب الاقصى
تعتبر الديانة اليهودية أول ديانة سماوية عرفها بلاد المغرب في تاريخه القديم، إذ أشارت معظم الأبحاث التي تناولت هذه القضية أن الطائفة اليهودية ساهمت في إغناء التركيبة المجتمعية لبلاد المغرب، وانتشرت في أغلب المناطق بالمدن والقرى منذ عهود سحيقة، رغم ما عاشه من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عبر التاريخ. إلا أن تأريخ وجودهم يعتبر من الاشكاليات التي استعصت على الباحثين، بحيث يصعب على المهتم بمسألة اليهود بالمغرب، أن يصل إلى نتائج نهائية تجيب على عدة فرضيات مرتبطة بالجانب التأصيلي للمسألة، سواء من حيث منطلقاتها التاريخية أو من حيث تطوراتها الكرنولوجية، والتراكمات التي خلفتها العناصر اليهودية بالمغرب، أو من حيث الجهات التي كانت منطلقا لليهود في اتجاه الأراضي المغربية.
ولكن إذا اطلعنا على المصادر والمراجع التاريخية التي تحدثت عن تاريخ اليهود، ومنها على سبيل المثال تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الاسلام لكاتبه إسرائيل ولفنسون، نجدها غالبا ما ترجع الأسباب التي دعت اليهود لترك أوطانها والنزوح إلى البلاد الأخرى، إلى زيادة عدد اليهود في فلسطين زيادة مطردة، جعلت البلاد تضيق أن تسعهم وتنفسح لعلمهم في سبيل الحياة، وقد بلغ عدد اليهود ذلك الحين أكثر من أربعة ملايين نسمة، وهو عدد كبير لا تسع له بلاد ضيقة كفلسطين، فاضطروا بحكم هذه الزيادات المستمرة والنمو المطرد أن يهاجروا إلى ما حولهم من البلاد المجاورة لهم، كمصر والعراق والجزيرة العربية.
وحدث في القرن الأول ق.م أن هاجمت الدولة الرومانية بلاد فلسطين وفوضت أركان الدولة اليهودية المستقلة فيها، وأخضعتها لسلطان النسر الروماني الذي قبض على زمام الحكم من جديد، ولكن النفور والاستياء في نفوس اليهود كان شديدا، إلى حد أن الفتن والثورات العنيفة كانت تشتعل بنيرانها من حين لآخر، وكان الرومان يقمعون تلك الثورات بشدة وقسوة، تزيد من النفور وتضاعف الاستياء، إضافة إلى حرب اليهود والرومان التي انتهت بخراب بلاد فلسطين، ودمار الهيكل ببيت المقدس، وبذلك تشتت اليهود في أصقاع العالم.
هذه من الأسباب التي جعلت اليهود يهاجرون إلى الأمصار، ومن بينها المغرب بشمال إفريقيا، والتي توافد عليها كثير من اليهود خلال فترات من التاريخ، وانطلقت أولى الهجرات اليهودية من فلسطين، حيث يدعي اليهود ممن يسكنون الجبال اليوم ويتكلمون الامازيغية ، أن أجدادهم تركوا فلسطين إلى المغرب قبل الأسر البابلي الذي حدث بعد أن قام ملك بابل نبوخذ نصر بمهاجمة أورشليم في عام 587 ق.م، وأسر يهودها ورحلهم إلى بابل وهو ما يعرف بالاسر البابلي.
ويشير الدكتور أحمد شحلان في كتابه اليهود المغاربة من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، أن وفودا جاءت مع الفنيقيين، تنشد بلد المغرب العطوف المتسامح، وكان قدومهم إلى المغرب من الشام، وتوجد مدينة جنوب المغرب باسم أيت داوود، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى يهودي من قبيلة يهوذا.
كما تقاطرت أفواج أخرى من الأندلس بعد فتحها، بعد أن قام ملك القوط فلافيوس سيزابوت، ومن جاء بعده في القرن السابع الميلادي من عام 612م حتى عام 660م، ضد اليهود قتلا وتشريدا، فحملهم على الهجرة إلى البلاد المغربية، وذلك إثر قرارات مجامع طليطلة التي خيرت اليهود بين اعتناق المسيحية أو المنفى مع مصادرة الممتلكات، ففضل معظم اليهود الاستقرار شمال غرب إفريقيا، وكانوا يوجدون في كل المجتمعات السكنية تقريبا بالمغرب، ففيهم من استقر بالمدن ومن عايشوا سكان الجبال ومن استوطنوا الجهات الصحراوية.
ومجيئهم إلى المغرب منحهم الهوية المغربية نفسيا واجتماعيا، حيث اندمجوا من حيث الأخلاق، والآداب، وطريقة التفكير، وتعايشوا مع الجماعات الموجودة بالمغرب، إلى درجة يصعب معها التمييز بين عناصر هذه الجماعات ظاهريا، في حين أن كل مجموعة كانت تزاول دينها وعقائدها الخاصة.
فظل اليهود يعيشون جنبا إلى الجنب مع الأمازيغ بالمغرب حتى القرون المتأخرة، وأشار دانييل شروتر صاحب مقالة اكتشاف اليهود الامازيغ إلى هذا الأمر، حيث تناول في مقالته الكيفية التي صيغ بها تمثل العلاقات اليهودية الأمازيغية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين، وكان معتمده في ذلك مادة وثائقية حول يهود منطقة إليغ، وهي الطائفة التي ظلت تعيش مع أمازيغ منطقة سوس التي يتحدث أهلها تشلحيت.
فتماثل العنصر اليهودي مع بقية مكونات المجتمع المغربي، وتنافسوا وتجاورا وخالط بعضهم بعضا في الأسواق، وشقوا الأرض بنفس المحراث، وغالوا وغلوا في رعاية مجرى السواقي بنفس حبة قطرة الماء، وتشاركوا في ماء البئر الواحدة، وتبادلوا طقوس التعبد على الصعيد الواحد، وعبروا عن أفراحهم بنفس الاهازيج، وعانوا القحط والمجاعات بنفس القدر من الصبر ومنعشات الأمل، واستسقوا الغيث عند شج السماء بنفس الحركة والابتهالات، وتساكنوا إلى حد أن تشارك الأطفال حليب الامهات.
وأشار اليهودي المغربي روبير أصراف في مؤلفه محمد الخامس واليهود المغاربة، أن اليهود العبرانيين الاوائل قد انكبوا على إرشاد القبائل البربرية إلى الديانة اليهودية، وما تزال الذاكرة الجماعية تحتفظ بحكايات متداولة من وجود دويلات يهودية مستقلة بمنطقة سوس ودرعة بالجنوب، ولم تفك هذه العزلة سوى بالفتح العربي على إثر وصول الفاتحين الأوائل سنة 683م، قادمين من الجزيرة العربية، وبدأ الانتشار في ربوع المغرب عشرين سنة بعد ذلك، وبهذا وضع الفتح العربي حدا نهائيا لعمليات التبشير باليهودية في أوساط القبائل البربرية.
ومن الأكيد أن اليهود في المغرب قد تمزغوا أي تكلموا الأمازيغية، وهو ما أشار إليه بعض الباحثين في القضية اليهودية بالمغرب، كاليهودي المغربي حاييم الزعفراني في كتابه ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب، إلى جانب اللغة العربية واللغة العبرية التي كان اليهود يستعملونها في صلواتهم، وإبرام عقودهم، فسكان الجبال اليهود تكلموا الامازيغية، وهذا واضح لمن زار بعض المناطق التي يقطنها اليهود جنوب المغرب كمدينة زاكورة، فكان هؤلاء اليهود مزدوجي اللغة يتكلمون الامازيغية والعربية باستثناء أقلية لم تكن تتكلم الامازيغية.
وبرز الوجود اليهودي المكثف في مختلف المناطق المغربية على المستوى اللغوي، من خلال وجود ثلاث مجموعات من المتكلمين اليهود بالمغرب، مجموعة تتكلم بالامازيغية وتقطن الأطلس، ومجموعة تتكلم الاسبانية وتقطن الشمال، ومجموعة ثالثة تتكلم الدرجة المغربية، في حين ظلت العبرية لغة عالمة، ولغة خاصة اليهود ولغة النساء، أو لغة البيت الخاصة.
وهذا وقد وجد اليهود بكثافة مهمة في كثير من المناطق والمدن، كمكناس، وواحة درعة والاطلس الكبير، ولم تخل مدينة مغربية من اليهود حتى العصور المتأخرة والذين يشكلون نسبة وصلت إلى 10 في المائة على الأقل، وهو ما خلف أثرا عبريا قويا في الثقافة الشعبية المغربية، وفي مظاهرها الاجتماعية والسياسية، نتج عنه التلاقح الحضاري الذي حدث بين اليهود والمسلمين عبر التاريخ.