ذ.عادل بن الحبيب يكتب للوسيط … هل القانون فعلا لا يحمي المغفلين؟
عبارة القانون لا يحمي المغفلين عبارة يرددها الكثيرون دون التدقيق فيها و ربطها بالواقع و بالقانون، لأنها ارتبطت دائما بالشخص الذي يتعرض لعملية نصب او احتيال او أي نوع من الاستغلال ، و المقصود في الغالب وصف هذا الشخص كنوع من السخرية و تحميله مسؤولية ما تعرض له بسبب جهله و تفريطه في اتخاذ إجراءات الحماية القانونية المفترض عليه ان يقوم بها.
هنا لا بد من التفريق بين المغفل و الغافل أو المفرط و المقصر. فالمغفل هو من يوصف قانونيا بانه ناقص الاهلية، سواء لسفه او جنون او قصور عقلي و هو محمي قانونيا ، فتخضع كل تصرفاته لرقابة القانون بما يحقق مصلحته.
اما الغافل فهو الشخص الكامل الأهلية العقلية و الذي لا يعاني من قصور ذهني و لكنه مفرط و لم يقم باتخاذ الإجراءات القانونية التي تحميه و بالتالي فعند تعرضه لأي خداع او احتيال نتيجة هذا التفريط فان القانون في هذه الحالة لا يحميه طالما لم يتخذ الطريق الصحيح لحماية حقه.
إلا أنه في بعض الحالات و التي يكون فيها الشخص الكامل الأهلية العقلية قد شاب إرادته عيب كأن يتم الاحتيال عليه بالتزوير او أي عيب من عيوب الإرادة كالتدليس و الإكراه فهنا نجد انه لم يفرط او يقصر بل تم التأثير على إرادته و بالتالي فإن القانون يحميه و يحفظ حقوقه.
أظن أن لا وجود لمثل هذا المثل في سائر اللّغات الأخرى. نعم، يوجد مقابل للعبارة التي تقول “لا يعذر المرء لجهله القانون”، والتي هي بمنزلة قاعدة قانونية كونية، لكن الادعاء بأنّ “القانون لا يحمي المغفلين”، لا يبدو له من مقابل في سائر اللغات الأخرى، فقط نحن العرب نردده كثيرا وبكثير من الزهو أحيانا، وننسبه إلى قصة أميركية لا تخلو من طرافة، نحاول أن نستنبط منها حكما شرعيا قطعيا على منهاج الفقهاء.
والقصة تقول إن أميركيا فقيرا استطاع أن يصبح غنيا بعد أن كتب إعلانا في الصحف يقول فيه: كل شخص يريدني أن أخبره بالسر الذي قد يجعله غنيا فليبعث لي بدولار واحد فقط على العنوان المذكور في الإعلان. فما كان من آلاف البشر إلاّ أن استجابوا للطلب طالما أن الرهان كبير والمطلوب قليل. لم تمض سوى أيام معدودة حتى بدأت الدولارات تتهاطل على صاحب الإعلان، وبعد أشهر أخرى جمع صاحبنا ما يقارب مليون دولار، فأصبح غنيا.
وبعدها أصدر إعلانا ثانيا نصح فيه كل من أراد أن يصبح غنيا أن يفعل مثله بالضبط. وفي رواية أخرى، أن بعض الناس رفعوا عليه دعوى في إحدى المحاكم، لكن القاضي قال لهم –والعهدة على الرواية العربية- القانون لا يحمي المغفلين.
طبعا مثل هذا الجواب غير قانوني، ولا يمكن أن يصدر عن قاض يعرف وظيفته؛ لأنّ أولى أولويات القانون أن يحمي الناس أجمعين، أكانوا مغفلين أو معتوهين أو ساذجين أو قاصرين أو حتى مجانين.
القانون وضع لحماية الجميع، و لكن لا ينبغي الدفع بالجهل به اذ لا جهل في القانون ،حيث انه يفترض بكل مواطن العلم بقانون بلاده بمجرد إقراره و صدروه و نشره و ذلك حتى لا يتنصل احد من المسؤولية أمام القانون او التمتع بمركز قانوني افضل في حال قبول الدفع بالجهل بالقانون الذي لا يعفي من العقوبة . ليس المقصود بالقولة ان القانون شرع لمصلحة أشخاص دون آخرين فالقوانين شرعت لخدمة الجميع .فعلى كل شخص يجهل قاعدة قانونية معينة،ان يسأل من كان خبيرا متخصصا بها،حتى يتجنب الوقوع في الخطأ و حتى لا يتعرض بالتالي للمساءلة القانونية ،من الضروري الوعي القانوني في حياتنا اليومية لتجنب التورط في الأخطاء والجرائم .
يجب أن يحتاط ويحذر كل فرد في معاملاته وتصرفاته، وإلا زالت عنه الحماية التي يقررها القانون فيصبح عرضة إما للمساءلة القانونية أو لضياع أمواله واستغلالها. ويجمع المختصون على أن الحماية التي قررها القانون تحتاج غالبا إلى الحذر والدراية بالأنظمة، فإذا كان القانون يحمي المغفلين، فإنه حتما لن يحمي المفرطين في حقوقهم، فلا عذر لمن يجهل القانون.
وعبارة (القانون لا يحمي المغفلين) تقودنا إلى معنى آخر مرتبط به وهو وجوب التفريق بين الحقيقة التي يقررها القانون والحقيقة كما هي على أرض الواقع، فليس كل حقيقة قانونية مطابقة للحقيقة الواقعية، ولتبيان ذلك فإن الحماية التي يقررها القانون للأفراد تصل إلى مستوى معين ولا يمكن أن تنزل دونه، أي أنه يقع على عاتق الشخص المكلف واجب اتباع سلوك مفترض مؤداه أخذ الحيطة والحذر في تصرفاته من أفعال واقوال حتى تصبح الحماية القانونية قائمة ونافذة.
فعند عرض نزاع ما أمام المحكمة، فإن القاضي لا يحكم بما يدعيه أو ينفيه أحد طرفي النزاع، بل إنه يحكم بناء على ما يُقدم في الدعوى من بينات تثبت هذا الحق أو تنفيه ، فكما هو معلوم فإن الأصل براءة الذمة وعدم شغلها بأي واجب أو التزام، ومن يدعي خلاف ذلك يقع عليه عبء الإثبات. فإذا عجز المدعي عن إحضار بينات لما يدعيه رغم حقيقة وصدق دعواه واستعان المدعى عليه بشهود زور أو أدى اليمين لنفي دعوى المدعي، فإن القاضي يحكم بناء على المعطيات المتوفرة لديه أي بناء على الحقيقة التي يقررها القانون، حتى لو كانت الحقيقة الواقعية خلاف ذلك. لذا هنا لم يتمكن القانون من حمايه المدعي لأنه لم يتخذ قدرا معقولا من الحيطة والحذر في حفظ حقوقه ككتابة عقد أو إقرار أو الاستعانة بشهود سلفا وخلاف ذلك من البينات التي يتطلبها القانون لإثبات الحقوق.
لذا أتى الفقه الإسلامي بقاعدة شهيرة مفادها أن (المفرط أولى بالخسارة) أي أن الذي يفرط في حماية حقوقه ومصالحه على نحو لا يعد من قبيل الصور التي يحميها الشرع، فهو أولى بالخسارة والضرر الذي ترتب على ذلك. ومن القواعد المهمة في هذا السياق كذلك قاعدة (لا يعذر أحد بالجهل بالقانون) فطالما أنه تم نشر القانون فهو ملزم لجميع المكلفين ولا يمكن لأي شخص أن يتذرع بجهله أو عدم علمه بهذا القانون، لأن نشره يقتضي العمل العلم الافتراضي لجميع أفراد المجتمع دون تمييز بينهم حتى لو كان الشخص أميا لا يقرأ ولا يكتب، فمن المستحيل عمليا أن يتم إبلاغ كل شخص على حدة عند صدور أي قانون. فمن الأمثلة على عدم جواز الاحتجاج بالجهل بالقانون، تفويت المدد المقررة لإقامة الدعوى أو استئناف الحكم القضائي، أو عدم استطاعة الحصول على بينات تثبت الحق، أو معرفة الأفعال التي تعد جريمة، فهذه كلها تعد من قبيل التفريط بالحقوق وبالتالي عدم شموله بنطاق الحماية القانونية، وبالمحصلة النهائية تعرضه للخسارة والضرر لسبب يعود إليه ، لذا تعد الثقافة القانونية وثقافة الحقوق والواجبات وآلية حمايتها والاستعانة بأهل الاختصاص هو السبيل الآمن لحماية الحقوق والمصالح من الضياع أو التفريط.