ذ.عادل بن الحبيب يكتب للوسيط … السياسة و الأخلاق.
يقول الشاعر الإنجليزي”بيرسي شيلي” :”إنّ أكبر جرم إرتكِب في تاريخ البشرية ، هو فصل السياسة عن الأخلاق“.
من الصعب على المرء، مهما كان انتماؤه السياسي، أن ينكر أن مجال السياسة أصبح خلال السنوات الماضية أقل تحضرا ودماثة.ربما يعود هذا الأمر إلى وجود وسائل التواصل الاجتماعي، التي زادت من قدرتنا على الاطلاع بشكل مباشر على أفكار من هم في سدة الحكم.
لكن علينا أن نقر هنا أيضا بأنه لم يسبق أن كان هناك هذا النوع من استخدام الإهانات الشخصية لانتقاد الخصوم ومهاجمة المعارضين، ولم يسبق ان كان هذا الكم من الكذب و الافتراء الذي اصبح يلجأ إليه السياسي اليوم من أجل زيادة شعبيته.
المشهد السياسي اليوم يجعلنا نطرح عديد الاسئلة ,ما حقيقة السياسة ؟ وما علاقتها بالأخلاق هل هي علاقة تكامل أم تنافر؟ وهل الالتزام الاخلاقي يتعارض مع النجاح السياسي أم به يكتمل؟ وماذا عن الرجل السياسي الغير المتخلق الناجح، والرجل السياسي الفاضل الفاشل؟
تثار العلاقة بين السياسة والأخلاق باهتمام لافت اليوم في أجواء تزدحم بصور العنف و تنامي لغة التهديد والوعيد ومنطق القوة والمكاسرة في رسم مسارات حياتنا، ربطاً مع تنامي التحلل من الضوابط والقيم الأخلاقية وإباحة كل الطرق والوسائل لتحقيق المرامي والأهداف السياسية.
إذا كانت السياسة في تعريفها البسيط طرائق قيادة الجماعة البشرية وتدبير شؤونها لما يعتقد أنه خيرها ومنفعتها، فالأخلاق هي مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضا أنه خير وتجنب ما ينظر إليه على أنه شر، وكلاهما، السياسة والأخلاق، تستهدفان تمليك الناس رؤية مسبقة تجعل لحياتهم هدفاً ومعنى، وبالتالي تلتقيان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ والعلاقات الإنسانية ، لكنهما تفترقان في أن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة تختلف نوعيا عن تلك التي تتناولها الأخلاق وصلت إلى حد التعارض في ثقافتنا السياسية السائدة، وبات من الدارج أن يتنكر المناضل السياسي لجميع الفضائل الأخلاقية وتبرير ذلك بمشروعية ونبل الهدف الذي يسعى إليه!!..
طبعا لا يقصد بالأخلاق في ميدان السياسة فقط حزمة القيم الشائعة عن الصدق والوفاء والشجاعة على أهمية هذه القيم وضرورتها في العمل السياسي النظيف ،وإنما أيضا حقيقة المسافة بين الأقوال والأفعال وتلك العلاقة الشائكة بين الهدف السياسي والوسائل المفضية إليه، أو بمعنى آخر ماهية التحديات والمعايير الأخلاقية التي تعترض أصحاب غاية سياسية لردم الهوة بين ما يدعونه ويعلنونه وبين سلوكاتهم وممارساتهم العيانية، وأيضا عند اختيارهم وسيلة نضال ورفض أخرى، هل تستند هذه المعايير إلى محتوى الغاية ومشروعيتها أم إلى القيم الإنسانية العامة؟! وبالتالي إلى أي مدى تبيح عدالة الهدف السياسي عند أصحابه استخدام ما يحلو لهم من وسائل غير أخلاقية وغير شريفة لتحقيقه، أو تشجعهم كي يدوسوا بأغلظ الأقدام على خير ما راكمته البشرية من قيم ومثل؟!.
عند التمييز في البنية الأخلاقية بين الفرد المندفع وراء حاجاته وأهوائه ونزواته عن الآخر الذي يصبو لقيم الخير والحق والعدل يمكن أن نقدر كم هي المعركة شاقة وقاسية لنصرة الأخلاق عند المناضل ، ولقلب ما أشاعته الثقافة السائدة من قيم سلبية تجد في النفاق والجبن والغدر أساليب ناجعة وتعتبرها أحد وجوه الحنكة والدهاء السياسيين.
وعلى رغم من أن الأخلاق والسياسة ماهيتان مختلفتان ويصعب احتواء إحداهما للأخرى، إلا أنه لا يصعب كثيرا تكاملهما في تفاعل متبادل ترعاه أجواء الحرية والاعتدال، وهنا يجدر القول إن الفضيلة السياسية أو الأخلاق في السياسية لا يمكن أن تنمو عيانيا في مناخات القهر والتطرف والعنف أو مع غياب حقوق المواطنة والعدالة والمساواة والمشاركة، ما يجعل الديمقراطية الخيار الوحيد لإرساء قواعد سلوك سياسي تنظمه القيم الأخلاقية في مواجهة العنف وشيوع الاساليب الغير اخلاقية لحسم صراع المصالح السياسية، وما يزيد الأمر جدوى أن ثورة الاتصالات وسرعة تبادل المعلومات شجعت الناس عموماً على التفاعل مع الأحداث أنى كانت، وبدأ شعور التضامن المشترك حول القيم الإنسانية يتنامى بصورة ملحوظة، ما أنعش الثقة بإمكانية بزوغ دور منتظر يحاصر الأساليب غير الأخلاقية وبناء المشهد السياسي على أساس التنافس السلمي والاحترام المتبادل وكبح جماح العنف .
لقد ابتلى مجتمعنا بمنطق خاص في خوض الصراع السياسي فرضه مدعو الوصاية على الناس والوطن، وجوهره ليس التنافس الصحي لاختيار الأفضل في إدارة المجتمع والأكثر كفاية للتعبير عن مصالح فئاته وتكويناته المتعددة بل مبدأ القوة ، وصارت المعادلة الشائعة في ممارسة السياسة هي اللجوء إلى السب والقذف والتشهير في حال الاختلاف والتعارض مع شخص أو جماعة ما،. وبرغم بعض البشائر التي تشير إلى تنامي روح جماعية ضد المنطق السائد، والبدء بتداول معايير جديدة تبغض التحلل الأخلاقي في السياسة وأساليب القمع والإقصاء وتشجع على تمثل القيم الإنسانية واحترام الآخر ووسائل التعبير السلمية والمدنية في إدارة الخلافات، فإننا لا زلنا نحتاج إلى عملية سياسية وثقافية كبيرة، تطلق آفاقاً جديدة لصالح الحياة والحقوق الإنسانية في مواجهة غطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة وتدشن العمل على مشروع نهضوي جديد ،لا مكان فيه للفصل بين السياسة والأخلاق، بعيدا عن استخدام الدين في السياسة . فالأخلاق والقيم الدينية اصبحت للأسف المدخل الذي يلج منه مستغلو الدين لتحقيق اغراضهم السياسية، لما تحظى به هذه الأخلاق والقيم من قبول عام في اغلب المجتمعات البشرية. لذلك يتم استخدامها للتأثير على الناس بغض النظر عن مدى التزام من يستغلونها ما داموا قادرين على إعطاء انطباع بأنهم حرا سها وحماتها.
لن تنتهي ويلات الأمم والشعوب ما لم تلتق الأخلاق بالسياسة، لابد من توحيد الهدف والمعنى بينهما، وربما تكون تلك دعوة نظرية لا تلامس الواقع الراهن ولكن تبقى مسؤولية على النخب الثقافية والاعلامية أن تحملها وتدعو اليها وتناضل من أجلها، لا أن تمارس تلك النخب الانزواء والسلبية فتتفاقم الأزمة الأخلاقية في العالم الذي يئن تحت وطأة الأنانية والانتقام والفساد.