أين المقلب ؟……بقلم :الدكتورعز الدين بونيت
ربما بدأت أخيرا افهم اين يكمن المقلب في وصلة الكاميرا الخفية التي تتحفنا بها القناة الثانية للموسم الثالث او الرابع على التوالي، تحت العنوان ذاته: “مشيتي فيها”. في كل مرة تنطلي علينا الحيلة ونصفع على أقفيتنا عدة مرات ونقف مشدوهين مما جرى لنا من احساس بالغبن والمهانة. هناك على ما يبدو حرص على دفعنا الى القرف، والى الاعتقاد اننا مجرد مسخ من مسوخ المشاهدين الأذكياء المفترضين الذين تتوعدهم قناتنا بما تهيئه لهم من برامج لإقحام البهجة والسرور في صدورهم إقحاما لا راد لمفعوله. والنية في مثل هذا تكون دائما أبلغ من العمل.
ضحايا المقلب في كل مرة هم نحن. ولا داعي للتنطع، فلا مفر لنا من الوقوع في الفخ ذاته كل مرة.
أعرف بعضا من الطاقم القيم على انجاز هذه المادة الترفيهية؛ واعرف انهم أشخاص لطفاء وجادون في عملهم.لكن المؤدى النهائي لما تجود علينا به قرائحهم من حبكات ومواقف مخيب للآمال والانتظارات التي نعقدها عليهم. أين تكمن المشكلة؟ هل في نقص المهارات ام في نضوب المخيلة ام في رداءة الذوق ام في هذه مجتمعة؟ كيفما كان الحال، يبدو ان توالي المواسم لم يشفع للفريق كي يدرك مستوى الضحالة الذي تنضح به جهوده عاما بعد عام.
أعرف ايضا ان التلفزيون احيانا، يشتري السمك في البحر كما يقول المثل، حين يعقد صفقات مع منتجين (موردين) يعدونه بمنتجات ذات مواصفات معينة، لكنهم في النهاية لا يوفون بما وعدوا به، ويكتفون توريد منتجات رديئة لا يسع المؤسسة إلا قبولها وبرمجتها إن هي ارادت ألا تخرم شبكة برامجها وتبقى بلا مادة للعرض. والحال ان البث التلفزي كثيرا ما يشبه بالفرن الذي لا يطلب الا مزيدا من الحطب دائما. ألهذا السبب وحده تنصاع القنوات للرداءة المفروضة عليها؟ أم أن هناك من يغذي فرص استدامة الرداءة عبر ممارسات غير سليمة داخل المنظومة المتبعة في الانتاج التلفزيوني الوطني الحالي؟ أليس هناك من يرعى هذا النوع من الممارسات التي تؤدي كل مرة إلى تكريس الرداءة والانصياع لها بدعوى أنه لم يكن هناك أبدع مما كان؟
لا أريد أن اسهب في التعليق على الانتاجات الترفيهية الرمضانية، لأن ذلك سيكون مجرد ضرب من التكرار، لما قلناه منذ سنوات بلا اثر. اليوم اجد من المفيد ربما ان اقول ان ما تقترفه قنواتنا التلفزية من آثام، ليس ضحيته الأولى هو الجمهور، بل هو تلك القنوات نفسها التي لا أجد وصفا اكثر ملاءمة لما تقوم به من وصف الرعونة. فهي تهدر اموال الشعب، ورصيدها من ثقته، وتدلس على النسيج الاقتصادي الذي يثق فيها ويستأجر لديها مساحات لإعلاناته التجارية، التي أتصور انها بلا فائدة، في تلك الأوقات المسماة باوقات الذروة. كما أنها تؤدي بسلوكها الارعن هذا الى أن يهجرها الناس هجرا تاما بما لها وما عليها، في مناخ يتسم بتزايد المنافسة الحادة على الجمهور المغربي بين مؤسسات إعلامية دولية ضخمة بدأت تستثمر في المحتويات الترفيهية المغربية وتنتجها بعيدا عن المغرب وتعرضها على المغاربة من منابر غير مغربية (حالة MBC و NETFLIXمثلا). وشيئا فشيئا سيفقد اعلامنا العمومي (الذي من المفترض انه قطاع استراتيجي وطني) قدرته على التأثير ثم قدرته على المنافسة، قبل ان يندثر أمام العولمة الاعلامية، او أمام قطاع خاص إعلامي قادم، برؤوس أموال محلية أو أجنبية (لا يهم)، يدق آحخر المسامير في نعش ديمقراطيتنا الموؤودة.
لذلك اتهم القائمين على تأبيد الرداءة في قنواتنا وبرامجها الترفيهية، بكونهم يدفعون إعلامنا العمومي الى الإفلاس مع سبق الترصد. وإذا لم تكن هناك سياسة مرسومة للوصول الى هذه النتيجة (وهذا ما أتمناه) فإنني اطالب بفتح تحقيق سياسي وقضائي في ما يجري في المشهد الإعلامي العمومي، لتفسير نقطة واحدة: لماذا تستمر الرداءة؟
لا انتظر أجوبة تقنية او تفسيرات مختزلة قادمة من مجال النقد الفني، تمسح المسؤولية في منفذي الاعمال الرديئة، وتغطي الغابة بالقش المتساقط من إحدى أشجارها الذابلة. أحلم بتحقيق يفضي إلى محاكمة تاريخية تذكرنا بمحاكمة الوزراء المرتشين التي شهدتها بداية سبعينيات القرن الماضي، لكن هذه المرة في مجال الاعلام العمومي؛ او على الأقل، محاكمة سياسية شبيهة بالمحاكمة التي يتعرض لها التعليم المغربي منذ عدة سنوات على يد الجميع بمن فيهم اعلى سلطات البلاد. على الأقل ستكون هذه مناسبة لنسمع نقدا ذاتيا مسؤولا من طرف هذا القطاع والقائمين عليه.
والله يحد الباس…