في الإقصاء السياسي للأمازيغية
تطالب الحركة الأمازيغية، منذ نشأتها في أواخر ستينيات القرن الماضي، بالنهوض بالثقافة الأمازيغية، وبتنمية اللغة الأمازيغية، وبالاعتراف بالهوية الأمازيغية وبالأمازيغيين كشعب “أصلي”، وبالتاريخ الأمازيغي الذي يحتاج إلى تصحيح وإعادة كتابة، وبتنمية “المناطق الأمازيغية”، وباعتماد العرف الأمازيغي في التشريع، وبتسوية مشكل ما يعرف بأراضي الجموع التي صودرت من القبائل الأمازيغية…
إلى جانب هذه المطالب، ذات العلاقة المباشرة بالأمازيغية، تطالب الحركة أيضا بالديموقراطية والعَلمانية والحداثة والعقلانية، وبالمساواة بين الرجل والمرأة، وبإقرار التعددية، وبتبني نظام فيدرالي… هذه المطالب تتردد بشكل متواتر في أدبيات الحركة الأمازيغية وبيانات جمعياتها وكتابات وتصريحات نشطائها ومناضليها.
إذن، وكما نلاحظ، هذه مطالب كثيرة ومتنوعة. وأين المشكل إذا كانت كثيرة ومتنوعة؟
المشكل، أولا، هو أن الكثير منها ليست خاصة بالأمازيغية وحدها، بل يطالب بها حتى المعارضون للأمازيغية، مثل الديموقراطية والعلمانية والتنمية الاقتصادية والحداثة والعقلانية، التي يطالب بها أيضا العروبيون المغاربة، من قوميين ويساريين.
والمشكل، ثانيا، أن هذه المطالب غير مرتّبة حسب الأولوية والأهمية، وحسب ما هو أصلي وما هو فرعي، وما هو شرط وما هو مشروط…
هذا الخليط من المطالب، والخلط بينها في الأهمية والمكانة، هما اللذان أوصلا اليوم هذه المطالب نفسها إلى مأزق حقيقي توجد فيه الحركة الأمازيغية: فمطالبها المتعلقة باللغة والثقافة والهوية الأمازيغية تعتبر اليوم ناجزة، إذ الهوية الأمازيغية اعترف بها في الدستور، واللغة الأمازيغية “تعدّ هي أيضا لغة رسمية” (حسب تعبير الدستور)، وأدمجت في التعليم رسميا منذ 2003، وفي الإعلام كما يشهد على ذلك وجود القناة الثامنة الخاصة بالأمازيغية.
إذن، منطقيا، تكون مطالب الحركة الأمازيغية، ذات الصلة المباشرة بالأمازيغية، قد تحققت، ولا مبرر، بالتالي، لاستمرار وجود هذه الحركة نفسها. ومع ذلك فلا تزال هذه الأخيرة مداوِمة، وبإلحاح، على مطالبها، مع شعور لدى مناضليها كأن كل ما أنجز لصالح الأمازيغية “لم ينجز بعدُ”. لماذا إذن الاستمرار في المطالبة بحقوق بعد أن استجابت لها الدولة؟ لماذا الاستمرار في المطالبة بهذه الحقوق وكأن شيئا منها لم يتحقق بعدُ؟
لأن مشكلة الأمازيغية ليس ـ كما يبدو للوهلة الأولى ـ هو الإقصاء اللغوي والثقافي والهوياتي والتاريخي، والذي شرع في الحدّ منه بعد الاعتراف للأمازيغية بحقوقها اللغوية والثقافية والهوياتية والتاريخية بدءًا من الألفية الثالثة. بل إن هذا النوع من الإقصاء، أي الذي يخص اللغة والثقافة والهوية والتاريخ، ليس إلا نتيجة للإقصاء الأكبر والأصلي، الذي ظل يمارس على الأمازيغية منذ إنشاء “ليوطي” للدولة “العربية” بالمغرب في 1912. إنه الإقصاء السياسي الذي تتولد عنه، كنتيجة طبيعية، كل الأنواع الأخرى الثانوية من الإقصاء، مثل الإقصاء اللغوي والثقافي والهوياتي والتاريخي.
فما معنى الإقصاء السياسي للأمازيغية؟
معناه أن السلطة السياسية للدولة تمارس بالمغرب، ومنذ 1912، ليس باسم الانتماء الأمازيغي، أي انتماء الدولة إلى موطنها بشمال إفريقيا، بل تمارس باسم الانتماء “العربي”، على اعتبار أن المغرب، ومنذ هذا التاريخ، دولة “عربية”. وهو ما يعني إقصاءً سياسيا ـ وقبل أن يكون إقصاء لغويا وثقافيا وهوياتيا ـ للأمازيغية التي لم يعد لها وجود سياسي، لأنها لا تملك سلطة سياسية بعد أن أصبحت هذه الأخيرة تمارس ـ كما قلت ـ باسم العروبة العرقية وليس باسم الأمازيغية الإفريقية. فإذا كان للأمازيغيين، اليوم، وجود لغوي وثقافي وهوياتي وتاريخي، إلا أنهم لا يملكون وجودا سياسيا لأنهم لا يملكون دولة منذ أن أصبح المغرب، ابتداء من 1912، دولة “عربية”، أي دولة العرب، بالمعنى العرقي، وليس الجغرافي والترابي. والنتيجة أنه إذا كانت الأمازيغية ـ والأمازيغيون طبعا ـ قد حصلت اليوم على اعتراف لغوي وثقافي وهوياتي وتاريخي، إلا أنها لا زالت تعيش، ومنذ 1912، الإقصاء السياسي، الذي هو مصدر وأصل كل الإقصاءات الفرعية الأخرى، كالإقصاء اللغوي والثقافي والهوياتي والتاريخي كما سبقت الإشارة.
هذا هو المضمون السياسي الحقيقي للقضية الأمازيغية. فإذا كانت الحركة الأمازيغية لا تكلّ من ترديد أن الأمازيغية قضية سياسية، إلا أنها تحصر هذا المضمون السياسي في ضرورة القرار السياسي الذي على الدولة “العربية” اتخاذه لصالح الأمازيغية. وهذا اعتراف وتسليم بالإقصاء السياسي للأمازيغية التي تحتاج إلى قرار سياسي “عربي”، أي أجنبي عنها، في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون هي صاحبة هذا القرار السياسي، باعتبار المغرب بلدا أمازيغيا إفريقيا يجب أن تتخذ فيه القرارات السياسية باسم هذا الانتماء الأمازيغي الإفريقي. فكل القرارات السياسية التي تصدرها الدولة “العربية” لفائدة الأمازيغية، هي إذن تأكيد وتأييد للإقصاء السياسي لهذه الأخيرة.
ولهذا فإن الاعتراف الرسمي بالأمازيغية، كلغة وكثقافة وكهوية وكتاريخ، لن يضع حدا لحالة الإقصاء السياسي الذي توجد فيه منذ 1912، مع الإقرار أن هذا الاعتراف مفيد للأمازيغية كـ”سياسة بربرية” جديدة، تهدف ليس إلى رفع الإقصاء السياسي عنها، بل إلى جعلها تتقبل هذا الإقصاء وتتعايش معه، على غرار “السياسة البربرية” القديمة لفرنسا، والتي كانت تهدف ليس إلى جعل الأمازيغية هوية للدولة، بل إلى إدماج الأمازيغيين والأمازيغية في الدولة “العربية” الجديدة التي خلقتها فرنسا. وما جعل هذه “السياسة البربرية” الجديدة حلا مناسبا للقضية الأمازيغية تبنته وطبّقته الدولة، هو أن مطالب الحركة الأمازيغية، في شكلها الحالي، وخصوصا المتعلقة منها باللغة والثقافة والهوية، هي مطالب عادة ما ترفعها الأقليات الإثنية عندما تطالب، من سلطات البلد الذي تعيش فيه، الاعتراف بحقوقها اللغوية والثقافية والهوياتية. وهذا ما يفسر أن الدولة “العربية” بالمغرب بدأت تستجيب للمطالب الأمازيغية، التي تخص اللغة والثقافة والهوية، لأنها لا تمس بالثوابت العروبية لهذه الدولة “العربية” بالمغرب، ما دام أنها لا تطالب بتمزيغ هذه الدولة لتكون دولة أمازيغية بثوابت هوياتية أمازيغية، تمارس فيها السلطة السياسية باسم الانتماء إلى الأرض الأمازيغية الإفريقية.
كل هذا يطرح مسألة الأولويات في مطالب الحركة الأمازيغية، التي لم تحدد، إلى الآن، ما هو المطلب الأول والأساسي الذي يجب أن يسبق المطالب الأخرى. فهي عندما كانت تطالب بدسترة الأمازيغية، لم تدرك أن الاعتراف ـ وهذا ما هو حاصل بعد الترسيم الدستوري للغة والهوية الأمازيغيتين ـ باللغة والهوية الأمازيغيتين في الدستور، لن يغيّر شيئا من وضع الإقصاء السياسي للأمازيغية، ما دام أن هذا الاعتراف يجري في إطار دولة “عربية”. وهو ما يترتب عنه استمرار الإقصاء السياسي للأمازيغية التي تبقى دائما موضوعا لقرار سياسي “عربي” بدل أن تكون هي صاحبة هذا القرار السياسي، لو كانت السلطة السياسية تمارس باسم الانتماء الأمازيغي الإفريقي على اعتبار أن المغرب دولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي الهوياتي.
فكما نلاحظ، لن يؤدي إذن تحقيق هذه المطالب الأمازيغية، على فرض الاستجابة الكاملة لها، إلى إنهاء الإقصاء السياسي للأمازيغية، والذي هو مصدر وأصل ما ظلت تعاني منه من تهميش وتحقير وعداء منذ 1912. هذا المأزق الذي تؤدي إليه مطالب الحركة الأمازيغية، في شكلها الحالي، راجع إلى انطلاقها ضمنيا من سؤال: “ما العمل لتحقيق المطالب الأمازيغية؟”، وهو سؤال ينصب على الوسائل التي تتحقق بها هذه المطالب. وهنا مكمن الخطأ، لأن سؤال “ما العمل؟”، المتعلق بالوسائل، لا فائدة منه ولا معنى له ما لم يسبقه سؤال “ماذا نريد؟” المتعلق بالغايات. وهو السؤال الذي لا زالت لم تطرحه بعدُ الحركة الأمازيغية، وبشكل واضح وصريح ودقيق ومحدد. ولأن هذا السؤال لم يطرح بعدُ، فإن الحركة الأمازيغية تناضل وتطالب دون أن تعرف بالضبط ماذا تريد، ولا أين تروم الوصول، ولا أين سينتهي نضالها، ولا أين ستقف مطالبها. وهذا ما يفسر أنها تطالب بكل شيء ولا شيء في نفس الوقت: فما دام أن كل مطالبها، وعلى كثرتها وتنوعها، وحتى لو تحققت، لن تقضي أبدا على الإقصاء السياسي الذي هو أصل كل مشاكل الأمازيغية والأمازيغيين، كما سبق شرح ذلك، فالنتيجة أن الحركة الأمازيغية تتصرف من خلال مطالبها، بشكلها الحالي، كما أنها لم تطالب بعدُ بأي شيء لصالح الأمازيغية، أي لم تطالب بعدُ بوضع حدّ للإقصاء السياسي الذي هو سبب كل الإقصاءات الأخرى التي ليست إلا فرعا ونتيجة لهذا الإقصاء السياسي كما سبقت الإشارة.
فالسؤال، إذن، الذي كان على الحركة الأمازيغية طرحه، والذي له علاقة بالمشكل الحقيقي والأول للأمازيغية، والذي هو الإقصاء السياسي، كما شرحنا معناه، (هذا السؤال) هو: “ما ذا نريد؟”. والجواب سيكون، ارتباطا بالإقصاء السياسي للأمازيغية، هو: “نريد دولة أمازيغية”، ليس بالمعنى العرقي وإنما بالمعنى الهوياتي الترابي، أي دولة تمارس فيها السلطة باسم الانتماء، ليس إلى العرق الأمازيغي كما في ظل الدولة “العربية”، بل إلى الأرض الأمازيغية، أي أرض شمال إفريقيا، كما هو حال جميع الدول والشعوب التي تكتسب هويتها من هوية موطنها.
الأمر يتعلق هنا تحديدا بالهوية الأمازيغية الإفريقية للشعب وللدولة الممثلة لذلك الشعب. أما ما يتعلق بالأفراد، فإن لكل واحد الحق في أن يدعي أنه ينحدر من الأصول العرقية التي يريدها ويختارها، عربية أو يهودية أو فينيقية أو رومانية أو نيجيرية أو أندلسية أو إغريقية… لأن تنوع هذه الأصول العرقية، الحقيقية أو المفترضة، لا تأثير له على وحدة الهوية التي تمثلها وحدة الأرض. ولهذا إذا كان المغاربة مختلفين، كأفراد، في انتماءاتهم إلى أصول عرقية متنوعة ومتعددة، مفترضة ومنتحلة في الغالب، فإنهم متفقون في انتمائهم جميعا إلى أصل واحد، وهو موطنهم بشمال إفريقيا، والذي يشكّل هويتهم ـ وليس أصلهم العرقي ـ الجماعية ـ وليس الفردية ـ كشعب وأمة ودولة. لقد وقع المغاربة، مقتدين في ذلك بدولتهم التي انغمست في رذيلة “الشذوذ الجنسي” منذ 1912 عندما غيّرت جنسها الأمازيغي الإفريقي بجنس عربي أسيوي، (وقعوا) ضحية أسوأ استلاب وأقبح تضليل لما أصبحوا يتباهون بأنسابهم وأصولهم العرقية، المنتحلة والمفترضة في الغالب الأعم، ويحتقرون انتماءهم الترابي الحقيقي الذي به تتفاخر الشعوب والدول التي تخلصت من إيديولوجيات الاستلاب والتضليل.
وعندما تحدد الحركة الأمازيغية بوضوح الغاية التي تناضل من أجلها، والتي هي إقامة دولة أمازيغية كأولى أولوياتها، وبالمعنى الهوياتي الجماعي، الترابي والجغرافي، والذي يخص الشعب والدولة وليس الأفراد في حد ذاتهم، والتي (الدولة) هي الشرط الواقف لوضع حد نهائي للإقصاء السياسي للأمازيغية والأمازيغيين، فإن هذه الغاية الجديدة تستلزم إعادة النظر في سبل ومنهجية نضال هذه الحركة حتى يكون هذا النضال متلائما مع الغاية التي هي الدولة الأمازيغية، أي الدولة التي تمارس سلطتها السياسية باسم الانتماء إلى موطنها بشمال إفريقيا. وهنا يجدر التوضيح والتدقيق أن هذه الدولة ليست شيئا جديدا سيخلق من عدم، بل هي هذه الدولة المغربية القائمة والحالية، لكن مع تمزيغ هويتها حتى تكون منسجمة مع هوية موطنها، كما هو شأن كل الدول والشعوب، الحرة والمستقلة، التي تستمد هويتها الوطنية الجماعية ـ وليس الفردية ـ من أرضها وموطنها.
إعادة النظر في سبل ومنهجية نضال الحركة الأمازيغية، يتطلب إذن استراتيجية جديدة تفرض على هذه الحركة القطع مع أشكال نضالها السابق، مع مراجعة نقدية، وبشكل جذري، لموقفها على الخصوص من القضايا الأربع التالية: الإسلام، اللغة العربية، الدارجة المغربية، العرب. وهذا ما سنناقشه في موضوع قادم.
محمد بودهان