بقلم ذ. عز الدين بونيت: العنف المبجل..
فجأة تدفقت الذكريات،.. فتذكر الجميع، كم تعرضوا لعنف مبجل وهم في صفوف المدرسة الأولى.. وترحموا على معنفيهم المبجلين، كأبلغ ما يكون الترحم… فجأة انهالت علينا نظريات تربوية تمدح العنف المبجل، وتراه انجع مناهج التربية وابلغها بالمقصود.
قبل سنتين، حين ظهر فيديو الاستاذ الذي يتلقى اللكمات في قسمه، تصايح الجميع بالويل والثبور، والولولة والنحيب، لما آل إليه مصير مهنة التدريس من بؤس وهوان. واليوم، نسمع صيحات وولولات حادة حول مصير الذل والهوان الذي صارت إليه مهنة التدريس، لأن أستاذا أدين في قضية اتهم فيها بممارسة العنف على تلميذة.
قرينة البراءة حق من حقوق المتهم. فكل متهم بريء إلى أن تثبت إدانته. والإدانة لا تصبح قارة حتى تستنفذ كل مراحل التقاضي المتاحة قانونا. ومع ذلك، فقد يحدث ان تتم إدانة شخص بريء بالفعل. وهذا ما يسمى بالأخطاء القضائية. وهي ظاهرة معروفة في تاريخ القضاء، ولا سبيل إلى تلافيها على نحو كلي. وهذا ما أدى إلى إقرار مبدأ تفسير الشك لصالح المتهم، لتقليص فرص الخطأ القضائي السلبي (إدانة بريء)، حتى ولو كنا سنقع في خطأ ايجابي (تبرئة مذنب).
في القضية التي تهمنا هنا، قضية أستاذ تارودانت، كان هناك من اقتنعوا ببراءة الاستاذ مما نسب إليه، وهناك من تركوا الامر بيد القضاء والتزموا الحياد. وهناك من استطردوا في حجاجهم دفاعا عن الاستاذ من منطلق الزمالة المهنية الصرف حتى وصلوا إلى درجة التسليم جدلا بأن الاستاذ قد يكون ارتكب عنفا، لكنه عنف مبرر على كل حال، وعنف يمكن قبوله والتساهل معه، بل وتجاهله ، عرفانا للأستاذ بما يبذله من جهد، وما يتكبده من مشاق الطريق، وقسوة الطبيعة ووعثاء السفر البعيد، من أجل أن يمحو الجهل وينشر العلم في ثنايا الجبال والقرى النائية. العنف الذي يصدر عن الاستاذ في بهذا المنطق لا ضير منه، ولا يستدعي إدانة ولا تبرما. بإعمال منطق الخلف نحصل على نتيجة مرعبة: إذا سلمنا بالحجج السابقة هل نفهم أن العنف الذي قد يرتكبه استاذ لا يتكبد وعثاء السفر وعناء تسلق الجبال للوصول إلى مدرسته، وإنما يخرج من بيته ويدخل قسمه في مدرسة حضرية، سيكون عنفا غير مقبول. في مثل هذا المنطق تكمن لوثة أخلاقية مخجلة: العنف الممارس على التلميذ البدوي يمكن تفهمه، عكس العنف الممارس على التلميذ الحضري. مسكين هذا البدوي المقهور قهرا مضاعفا.
لهذا السبب بالذات، شعرت بكثير من المرارة وأنا أقرأ ردود فعل عدد من الأساتذة إزاء مجرى القضية: كيف ينتهي بنا دفاع يائس الى تبرير عنف مجالي بدون خجل ولا تنبه؟ ليست لدي معطيات عن ملف القضية تسمح لي بتكوين تقدير خاص حول مدى مسؤولية أستاذ تارودانت عن ما نسب إليه. ولذلك فأنا ملتزم بقرينة البراءة لصالحه الى أن يثبت العكس، وتنتهي اطوار المحاكمة.
ما يعنيني في هذا الجدال، هو فقط هذه الظاهرة التي برزت في صفوف المدافعين عن الأستاذ، لدرجة إنكار الطابع غير القانوني لممارسة العنف في العملية التعليمية. وبالمناسبة، فالعنف ظاهرة مطردة في المدارس، ولا سيما الابتدائية وبأشكال مختلفة، مادية ولفظية. وهذا أمر عاينته بنفسي كثيرا، ولا يفيدنا إنكاره او تسويغه.
كنت أتوقع أن تنتشر بالموازاة والتعاضد مع حملة مساندة براءة الاستاذ، حملة واضحة لإدانة مبدئية للعنف في العملية التعليمية التعلمية، عوض الانبراء لتبريره وتسويغه بهذا النوع المضحك المبكي من نوسطالجيا العنف المبجل.
من جهة أخرى، أجدني مضطرا لإعلان رفضي المهني لأي دعوة إلى تبخيس عمل الأستاذ، عبر مقايضته بالموقف من حكم قضائي، يعتبره بعض المقتنعين ببراءة أستاذ تارودانت، غير منصف، من خلال نشرهم لدعوات يعلنون فيها انهم سيتخلون عن كل ما يشكل جوهر مهنتهم، وسيتحولون الى آلات كسولة متراخية، وكأنهم يقولون لنا، إما أن يتغاضى المجتمع عن بعض تجاوزاتنا، وإما أن نعاقبه من جهتنا بالتخلي عن واجباتنا، إزاء أبنائه.
لو ان كل حكم قضائي، حتى ولو كان غير منصف في تقديرنا، دفع بنا الى مثل هذه القرارات، فسنصل الى افلاس مهني حقيقي. نحن اولا ضد العنف في العملية التعليمية. وهذا اول ما يجب علينا تأكيده كموقف مبدئي، ونلح على محاكمة عادلة لكل متهم، تضمن له حقوقه الكاملة في الدفاع عن نفسه واثبات براءته ومراجعة الحكم في الإستئناف إن اقتضى الحال. وحين تحكم المحكمة لا نجهز عليها لمجرد أن الحكم كان عكس ما ننتظر. لنجتهد في تبرئة من نظن براءته، ولنحفظ لمهنتنا جديتها ومهابتها، عبر عملنا الجاد والمجتهد والمبتكر. بهذا وحده سنفرض على المجتمع ان يحترمنا ويعترف بجدارتنا.