الصوت الخفي في زمن كورونا
بقلم د.ياسين اعميرة
لا أعرف إن كان ذلك الاخرُ وصوته الخفي مصابا بمتلازمة “الإحساس بالوعي الجماعي المزمن”، إن صحَّ هذا الوصف أو حتى إن وُجِد هذا “النعت” في مصفوفات أهل الطب و الاختصاص. لكن أجعل بداية مقالتي هذه، أن ذلك الاخر كلما رأى عارضا أو حتى ظاهرة، يعتبره مخالفا للقواعد العامة المتعارف عليها، يجد في نفسه صوتًا خفيًّا حيًّا متفاعلا مع هذه العوارض العارضة على مسمعه ومرأه، ينصح وينتقد تارة و يزجِر وقد يسبُّ بدون شعور أو سابق إشعار تارة أخرى.
من هنا ينطلق ذلك الاخرُ لكي يتقاسم معنا مجموعة من المواقف الحياتية في معيشه اليومي مبرزا بعضا من صور وأشكال تفاعل صوته الخفي و انفعاله معها من مُنطلق الوصف وليس الحُكم على الشيء.
يُخبرنا صاحبنا ذلك الاخر، أنه ذات مساء يومٍ شديدِ الحرّ استهوته نفسه القيام بجولة في إحدى الأماكن الخضراء العامة داخل المدينة لكي يستمتع بنسمات مُلطِّفة لعله تنسيه حرارة البيت و زمْته. فاذا به وهو يُهمُّ بالجلوس وسط حشد من أقرانه، ينبعثُ صوتٌ خفيٌّ متذمرٌ من دواخله ويقول “مْعَا مَنْ حْنا عَيْشِينْ فْ هَدْ البْلَاد؟؟” ويتابع “أشْ هدْ البَشَرْ وَاشْ بْنَادَم عَقْلو فِيهْ غِي الزْبَل و الوْسَخ؟؟” مختتما حديثه ” الله إِعْطِنَا مْعاَكُمْ شِي تْسافِيرَ بْلاَ رَجْعا” ثم يستجمع جسده فينسحب تاركا لهم المكان و الفضاء وهو يقوم بركل كل ما يعترض طريقه من بقايا قارورات المياه و المشروبات الغازية الفارغة وبقايا أكل بني أدم المرمية على الأرض بدل سلات القمامة الموضوعة لهذا الغرض وقد بدت على وجه صاحبنا علامات الامتعاض والغضب. وبينما هو في طريق العودة راجع الى بيته، إذا بنظره يلتقط مشهد شخص يرمي بسيجارته من نافذة سيارته في نفس اللحظة التي يقدف فيها طفل جالس في احدى المقاعد الخلفية بعلبة بسكويت فارغة كان بصدد الانتهاء من تناولها. ” حْسَنْ عْوَانْك أبَّا المَحْجوبْ مْعَ هَدْ القَوْم”، ينطق مجددا ذلك الصوت الخفي الملازم لصاحبنا ذلك الاخر وكأنه ربما يقصد عامل النظافة المُكلف بتنظيف يومي لقارعة هذا الطريق ومعانته من مثل هذه التصرفات.
قد يقول قائل أن هذا الصوت ينم عن رغبة أصحابه في ممارسة الرقابة على سلوكيات القوم و تقمُّص دور المربي و المُصلح مع ما قد يصاحبه من مظاهر التعالي والسلطوية على القوم ومحاولة سلب حريتهم.
لن نخوض في بيان صحة أو خطأ هذا الطَّرح أو الذي سبقه، ولكن دعونا نُعرِّج نحن و ذلك الاخر على زمننا هذا الذي يعرف أزمنة صحية لا نظير لها في التاريخ الحديث سببها فيروس لا يُرى إلا بمجهر عالي الدقة و تحت ظروف مخبرية محكمة جدا لا تدع مجالا للتساهل و التقصير لشروط السلامة و الحماية، تحثُّ الفرد و الجماعة على إتباع نصائح المختصين و الدارسين لعلم الأوبئة.
وكأني به امتحان واختبار حقيقي لمدى انضباطنا الاجتماعي ومسؤوليتنا كأفراد يعيشون داخل مجتمع حتى تمر هذه الجائحة باقل الخسائر.
إلَّا أنه ومع كل تلك المجهودات المبذولة بشتى الوسائل و الطرق، يرى ذلك الاخرُ ونحن معه أشكالا و أنواعا من تعامل بعض الاشخاص مع التوصيات الصحية الصادرة عن الجهات المختصة، بنوع من اللامبالاة وكأنه كلام فارغ لا فائدة تُرجى منه.
ولعل صاحبنا ذلك الاخر و هو يصادف في الطرقات و الأماكن العامة أشخاصا بلا كمامات و لا تباعد جسدي بل و يتصرفون على نقيض ما ينصح به أهل الاختصاص، أن يتخيل منسوب السخط و التذمر لدى صوته الخفي، والذي بات ينطق بكلام قيمي خطير تحت ضغط خطورة المرحلة و كمية الخوف التي تصطحب الإعلان عن الأرقام الضخمة للحالات الحاملة للفيروس التي يتم التصريح بها وعدد الوفيات الذي بات يتنافس مع نفسه في تحطيم الأرقام القياسية كل يوم.
هنا أقف وأقول فعلا أن المرء يشمئز وقد يشتد غيظا و غضبا كلما رمق شخصا يلبس كل شيء في زمن كورونا إلا “الكمامة” أو يلبسها في مرفقه أو في رقبته بدل وضعها على فمه و أنفه أو رأى مستهترين يبالغا في العناق والتصافح الحميمي أو ثلة من الجالسين حول طاولة المقهى دون تباعد جسدي يَحفّهم دخان السيجارة المتناثر بينهم، وكأن “كورونا” لم تكن يوم بيننا. ينطق صوت صاحبنا مجددا بحالة من اليأس :”وَاشْ نْتُومَا … واش بْغِيتُو تْقْتْلُونا وْ تْصْفِيوْهَا لِينَا كَامْلِينْ؟؟”.
نتفق جميعا على أن الوقاية خير من العلاج وأن الانسان مأمور بالحفاظ على حياته و حياة غيره دِينًا و قانونا بل وعلى عدم التسبب في الضرر لنفسه وغيره. ونتفق أيضا على أن هذا الحفاظ منه ما هو مؤسساتي و ما هو مسؤولية شخصية تلزم الفرد و الجماعة.
هنا ينطق صوت العقل متسائلا، ماذا لو أن كلَّ واحدٍ منا يملك في دواخله هذا الصوت اليقظ الحيّ، الذي كلما رأى “منكرا” سارع الى تنبيه صاحبه أولا ونصح وسدد وصوَّب قدر الممكن لمن عليه الحق ثانيا؟ ماذا لو وُجِد هذا الصوت بعدد سكان البلاد؟ ماذا لو ترقى هذا الصوت وإنتقل الى الفعل البنَّاء الهادف للمصلحة العامة ؟. ثم يرد العقل مجيبا في استنكار، أليس لهذه الأرقام المخيفة لعدد الوفيات أن تؤول للصفر بعد مشيئة الله؟ أليس لحالات الاكتظاظ في غرف الإنعاش أن تنقص و تنقرض لو وُجِد في دواخلنا ذلك الصوت المُنظم لسلوكنا و المُحكم لتصرفاتنا الاجتماعية ؟.
خوفنا من الفيروس ليس بقدر خوفنا على ذلك الصوت الخفي، إن وُجِد لازال حيًّا، من الضعف و الهوان و تلاشيه لكثرة تعرضه للكبث بكل وعي من طرف أصحابه ومن طرف المحيط حتى بات يتحاشى التفاعل مع الواقع المحيط المرئي و المسموع و كأن “أضعف الايمان” أصبح بعيد المنال وثقيل الحمل على غالبيتنا.
الله المستعان.