“آخر مرة” شريط سينمائي جديد: هل تساهم الرياضة والقضاء على التحرش الجنسي؟
ذ. الكبير الداديسي
إذا كان كل عصر قادرا على إنتاج أشكال تعبيرية تساير سرعته وتلتقط ذبذباته، فإن عصر السرعة وزمن تسريع التواصل والاتصال استطاع إنتاج ما يساير إيقاعه الزمني، فقدم لعصر السندويش والأكلات الخفيفة أجناس فنية مكثفة تناسبه من خلال القصة القصيرة، القصة القصيرة جدا، الهايكو والشريط السينمائي القصير… ويعد هذا الفن الأخير كبسولة سمعية بصرية مكثفة، ومزحة فنية متفق عليها بين عدد من التقنيين (كاتب النص، مخرج، ممثلين، مصورين…) من جهة والمتلقي من جهة أخرى حتى كاد يصير أحد أهم مميزات المشهد السمعي البصري تقام له المسابقات والمهرجانات وتنظم الحفلات فرحا بأي شريط قصير جديد، وقد ساعد قصره وكثافته على سرعة انتشاره عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تروجه، وتروج له حتى اضحى علامة مميزة لهذا العصر، وأحد أكثر “الرادارات” الفنية قدرة على التقاط وذبذبات العصر وتصوير ما يجول بخوالج النفس البشرية…
في هذا الصدد احتضنت قاعة مسرح مدينة الثقافة والفنون ليلة الجمعة 18 فبراير 2022 حفلا فنيا احتفالا بالعرض الأول للشريط السينمائي القصير “آخر مرة” للمخرجة مثال الزيادي وهو ثاني شريط للمخرجة بعد مولودها الأول ” زهرة أمل” الذي قاربت فيه معاناة أسرة الأطفال مرضى التوحد.
تعود مثال الزيادي في شريطها الجديد لتلامس موضوعا أكثر حساسية، إنه موضوع التحرش الجنسي من خلال معاناة راضية بطلة الشريط: يبتدئ الفيلم القصير “آخر مرة” بمشهد خارجي نهاري في لقطة متناهية الطول Extreme Long Shot تقدم انطباعا عن موقع وجغرافية المكان وزمان التصوير بطريقة يفهم المشاهد ما يحيط بالمكان وتهيِّئُه ليرى الحدث كاملاً. وهي لقطة مأخوذة من أعلى تظهر فتاة تقف على شفة جرف عال مطل على البحر يثير الرهبة ليتم التركيز على فتاة محطمة تقطع سيرتها الذاتية المهنية متذمرة من حياتها في لقطة تعكس حرفية المصور، إذ استطاعت المخرجة من اللقطة الأولى شد انتباه المشاهدين ودمجهم مع الإحساس بضعف الشخصية تماهيا مع كل صورة مأخوذة من أعلى تستهدف تصغير المصوَّر، ليتدفق السرد السينيماتوغرافي عبر مونولوغ بطلة الشريط يسبح بالمشاهد في معاناة “راضية” وهي تدق أبواب البحث عن عمل دون أن يفتح في وجهها أي باب ، ولما لمعت أمامها بارقة أمل وحلم الظفر بشغل يحفظ كرامتها ويخلصها من براثن البطالة وجدت نفسها بين كماشة رب عمل لا يرى في كل مرأة تلج شركته سوى فرصة لإشباع نزواته، لتغوص الجمل السينمائية بالمشاهدين بتقطيع مونتاجي احترافي في مستنقع ظاهرة التحرش الجنسي بالمعامل والشركات الخاصة، وتستفيق راضية على كابوس مرعب أحال حياتها جحيما لم تستطع معه صبرا، فاطرت لتنفجر في وجه مشغلها وتقرر تويرط المشاهد معها في حياة تنبئ بانسداد الأفق… قبل أن تنتفض وتقرر صناعة سعادتها، متخذة من الرياضة وسيلة لتفجير طاقاتها الداخلية…
إلى جانب اختيار تيمة التحرش الجنسي كتيمة مستفزة ومحفزة انماز الشريط بجودة الحبكة وحسن حياكة القصة السينمائية وباختيار مسرح التصوير وتقديم مشاهد تسوق مدينة آسفي كفضاء سينمائي بإضاءته الطبيعية وشواطئه الممتدة وعمارته المتميزة حتى أن بعض المشاهدين اعتقدوا أن الشريط صور في مدينة غير مدينتهم… قبل أن يقتنعوا أن مدينتهم كما لو أنها فضاء مصمم خصيصا للتصوير الخارجي قد يغني عن أحسن الاستيديوهات والفضاءات المعدة للتصوير
وحتى وإن افتتح الشريط بلقطة متناهية الطول فسرعان ما اعتمد التدرج في الانتقال بين اللقطات، حسب تطور أحداث القصة التي بنيت على المونولوغ أكثر من الحوار وعلى اللعب بالماكياج حسب الحالات النفسية للبطلة…
استطاع التصوير ب”الدرون” تقديم صورة عالية الجودة من مختلف الزوايا باعتماد طريقة تتيح للمشاهد حق الاستمتاع بأبعاد لا تتيحها الكاميرا الثابتة بل قد تتجاوز التقنيات والوسائل المكلِّفة وتستعيض عن التراكين (Camera Tracking) و”الدولي” وما يتطلبه ذلك من تجهيزات (سكة وتثبيت الكاميرا وكرسي للمصور ومساعدين لتحريك الدولّي أو البحث عن محرك كهربائي ..) فكانت عدة لقطات تقوم على التصوير الدائري الذي يتناسب والدوامة التي وجدت البطلة نفسها فيها…
وعلى الرغم من حساسية الموضوع وخطورته التي تتطلب تعبيرا مباشرا، وتقنية مباشرة لتوصيل الرسالة عبر أقصر الطرق، فقد بني الشريط على إحالات رمزية كثيرة بدءا برمزية البحر الذي قُدم في أول لقطة مخيفا يوحي بالموت والانتحار لينتهى البحر في آخر جملة سينمائية بالشريط باعثا على المرح ومبشرا بحياة جديدة، كما كانت للرياضة رمزيتها سواء كمتنفس وطاقة موجبة متجددة، أو كفضاء للتذكر والتخلص من رواسب الماضي، أو كوسيلة للدفاع عن النفس وإثبات الذات…
ولأن فن التصوير هو أساس السينما فقد كان للصورة رمزيتها وكثيرة هي اللقطات التي قدمت دون حوار أو كلام، ففي لقطة تحرر المرأة من وطأة الصراع الداخلي الذي كان يكثم أنفاسها قَدم الشريط البطلة وهي تجري والكاميرا ترصد حركتها بحرفية قبل تحريك الكاميرا إلى الأعلى للتركيز على أشجار النخيل الباسقة مرصوفة على جنبات الشارع …
وإلى جانب جمالية الصورة كانت لغة المونولوغ لغة محبوكة لشاعرة تعرف كيف تغزل الكلمات رهافة ولينا، مما أحال الشريط بَوْحاً لامرأة منكسرة استطاعت تكسير الأغلال التي تكبلها لتصنع سعادتها بالاعتماد على طاقتها الداخلية…
شريط ” آخر مرة” لم يترك فيه شيء للصدفة فليس عبثا أن تتعرض البطلة للتحرش والعنف في شارع 8 مارس…