أقلام الوسيط

ماهو الحل لإصلاح نفوسنا؟؟

 

لا يختلف اثنان فى أن أخلاقيات الناس في عصرنا هذا تتهاوى، وقد تنهار تماماً، مثلما تنهار العماراتُ الكبيرة فجأة، فلا يكون سقوطها إلا مروعا لأن الدين والأخلاقُ بناياتٌ ضخمةٌ فى المجتمع الإنسانى، عسيرٌ رفعها إذا هَوَت، وسقوطها لا يكون إلا مروِّعاً.
هل يشكُّ أحدٌ فى التدهور السلوكى الذى عَمَّ البلاد وطَمَّ، وجَلَب الهمَّ؟ !
على الشاكِّ، كى يتأكد من حجم الكارثة الإجتماعية أن يمرَّ فى شوارعنا ساعةً واحدةً ليرى ما صرنا نسميه «قلة الذوق» أي انعدام الآداب، وانهيار السلوكيات العامة ! فلابد لنا من حَلٍّ.
ما الحلُّ؟ نسألُ فى ذلك فقيهاً ضليعاً فى أمور الشريعة، حسبما قيل، فيقول من فوره ومن غير تفكير كُلَّ مايستطيع! فها هى القنوات الفضائية تنهمر على الناس بمواعظ الدعاة ودروس المحبة، وها هى المساجدُ عامرةٌ فى أيام الجُمَع، وها هم أئمة المسلمين وأقطاب المتأقبطين يتنازعون فيما بينهم سراً وجهراً، لإعلاء النهج الإلهى القويم وشرع الله المستقيم، ولإثبات أن الفقهاء هم حقاً قادة الرأى فى المجتمع الإنسانى السليم.. لكن السلوكيات العامة، تظلُّ تزداد تدهوراً كل يوم، على الرغم مما يفعله هؤلاء الناطقون باسم رب العالمين.
ما الحلُّ؟ نسألُ السياسىَّ والفيلسوف، فيزعق الأولُ منهما قائلاً إنه يرفع لواء «الإصلاح» ويتغنَّى بمفرداته منذ سنوات، من دون جدوى. وما باليد من بعد ذلك، أىُّ حيلة! والفيلسوف لن يجيب إلا بعدما يتفكَّر طويلاً، وقد يتفكَّر ثم لا يجيب، وإذا أجاب فى نهاية الأمر، فسوف تكون إجابته بائسةً يائسة.

. نسأل الصوفى، فيقول إن الحلَّ فى العبادة الحقَّة. ولكنْ لهذا الأمر تبيان لابد منه وبيان لا غنى عنه، لاستكشاف حقيقة العبادات عند الصوفية، والتعرُّفِ إلى آفاقها الرحبة.
فالتصوف ليس فكرا أو مذهبا حتى يؤخذ من الكتب أو عن ذوي العقول غير المسددة بالشرع المحمدي وغير المؤيدة من لدن الحق، وإنما هو خوض تجربة حية على يد عارف بالله خبير بمداواة أدواء النفوس قصد التحلي بالأخلاق المحمودة والتخلي عن الأخلاق المذمومة.
وقد عرف التصوف بأنه هو الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني فالتصوف يهدف إذن إلي تهذيب النفوس وإصلاح القلوب التي بصلاحها تصلح أعمال الجوارح الظاهرة وقد جعله حجة الإسلام أبو حامد الغزالي فرض عين على كل فرد لأنه لا يخلو أحد من عيوب وأمراض في قلبه إلا الأنبياء لأنهم معصومون.
لابد لنا قبل استعراض الرؤية الصوفية للعبادات، ولفروض الشريعة، أن نورد إشاراتٍ تمهيديةً لهذه المسألة الدقيقة، فمن ذلك، أن الأمثلة التى سنذكرها فيما يلى، مستقاةٌ من قواعد الإسلام الخمس (الشرعية) ولكنها تقبل الانطباق والتعميم على أى عبادةٍ كانت.. ومن ذلك، أن الصوفى مهما بلغ مقامه وعمقت فلسفته، يظل حريصاً على إقامة جدار الشريعة وفروضها، فلا يقول بسقوط الأحكام والتكاليف الشرعية وإلا أسقطه قوله من إطار التصوف. ولذلك يقول الصوفية: لا حقيقة بلا شريعة.
ومن الإشارات التمهيدية، المهمة، أن الرؤية الصوفية لحقيقة العبادات ظهرت عند كل صوفي حقيقي معتبر
ولذلك، تُروى أقوال وحكايات عن الصوفية المبكرين، تدل على إدراكهم لحقيقةٍ دقيقةٍ مفادها أن العبادة لا تتوقف على ظاهر الأداء، وإنما على عمق الأثر الذى تحدثه هذه الفريضة الدينية أو تلك. ومن هنا، يحكى أن شيخاً صوفياً اقتضى علاجه من عطبٍ بساقه أن تقطع هذه الساق المعطوبة، وكانوا يخشون عليه من صدمة الألم، فطلب من معالجيه قَطْع ساقه أثناء صلاته، لأنه يكون آنذاك فى استغراقٍ كاملٍ، وغيبةٍ تامة عن الحسِّ.. فنجح الأمر.
والإشارة الأخيرة هنا، هى أن حقيقة (باطن) العبادة أو الفريضة، لا يمكن أن تنوب عن ظاهرها، بمعنى أن حقائق العبادات التى سنعرض لها فيما يلى، فى واقع كلام رجال التصوف، هى قيمةٌ مضافة للأصل، بحيث لا يمكن القول بأن المعنى الصوفى لهذه الشعيرة الشرعية أو تلك، بديلٌ عن المفهوم الفقهى لها، فالباطن (التصوف) والظاهر (الفقه) يتكاملان، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر.. فتدبَّر
وكما هو معروف، فإن الصلاة فى الإسلام هى الركن الأول من أركان العبادة، وهى الفرض الذى إن أقامه العبد فقد أقام الدين. ويعرف العامة والخاصة أن الصلاة لابد أن يتقدمها تطهر بالوضوء، ثم تكون بعده الصلوات الخمس بنوافلها المستفادة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وللصوفية رؤية خاصة للصلاة، عمادها الذوق وقوامها التحقيق. فالصوفى عندهما إن نوى أداء فرض الصلاة، فالنية هى الإقرار بوحدانية الواحد عزَّ وجلَّ. وإقامة الصلاة، إشارة ذوقية إلى «إقامة ناموس الواحدية» وإلى خضوع المخلوق لعزة الخالق.. يقول الجيلى، شعراً: أصَلِىِّ إذَا صَلَّى الأنَامُ وإنَّما / صَـلاَتى بَأنِّى لاِعتِزازِك خَاضِعُ.
فإذا شرع الصوفى فى التطهر بالوضوء، انتبه إلى أن الوضوء هو تطهير للقلب من النقائص الكونية والآفات الدنيوية. وكون التطهر بالماء، هو إشارةٌ إلى أن هذه النقائص لا تزول إلا بأن يحيا الإنسان حياة جديدة.. والماء هو (سر الحياة) الذى خلق الله منه كُلَّ شىءٍ حىٍّ)
واستقبالُ القبلة، حين يصلِّى الصوفى، هو إشارة إلى توجيه همته إلى الحق تعالى، ونيَّة الصلاة، تشير إلى انعقاد قلب المصلِّى على هذه المهمة وهذا التوجُّه. ثم يقول المصلِّى (الله أكبر) فتكون تكبيرة الإحرام هذه، إشارة إلى أن الجناب الإلهى أكبر من كل ما سواه، بل هو لا يُقرن بغيره. ويكون هذا إيذاناً بموت الشرك الذى يخيل فيه للإنسان، أن خيره وشره فى قدرة أحد المخلوقات، فالصوفى المتذوق يدرك عند تكبيرة الإحرام أن الله واسع محيط، وأنه تعالى أكبر من كل خلقه.. وفى هذا قمة الاستغراق فى عظمة الخالق.
ثم تأتى قراءة الفاتحة لتشير إلى الإنسان بأنه (فاتحة) الوجود كله، ومظهر لبداية تجلِّى العلم الإلهى، الذى علَّمه الله لآدم عليه السلام، ورفع به قَدْره فوق قَدْر الملائكة، ولهذا أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، فسجدوا، لأنه كان فاتحة الأسرار الربانية المودعة فى النشأة الإنسانية. ثم يكون ركوع المصلِّى، إشارة إلى انقطاع نظره عن كل الموجودات الكونية، التى تكون آنذاك قد انعدمت تحت سلطان التجلِّى الإلهى فى الكون.. فالإنسان إذا ما انشغل بالله، واستغرق فى تأمل مظاهر جماله وجلاله وكماله، لا يقدر آنذاك على الالتفات لشىء من هذه الموجودات الكونية، إذ يكون انشغاله بربِّه قد ملك عليه قلبه، بحيث لا يُبقى مكاناً للأغيار.
والقيام إشارة إلى وصول العبد إلى مقام (البقاء) وهو مقام صوفى رفيع، يبقى فيه العبد مع الله بكل شعوره ويرتفع عن المحسوسات بكل مشاعره، فيكون فى هذا الوقت بالله ولله ومع الله، ولهذا يقول فى قيامه «سمع الله لمن حمده» وكأنه يخبر عن حال الله بنفسه كما لو كان خليفته فى الأرض.. وبعدها يسجد العبد لخالقه، وما سجوده إلا إقراره بالفناء عن الدنيا، استعداداً للبقاء مع الله
ويختتم المصلِّى صلاته بالتحيّات، وهى عند المتذوق إشارة إلى الكمال الإلهى الذى أودعه الله فى نبيه عليه الصلاة والسلام، فهى ثناءٌ على النبى وثناءٌ على عباد الله الصالحين الذين لا تكتب لهم (الولاية) إلا باتباع النبى والتأدب بأدبه.. وهذا المعنى الذوقى للصلاة مضافٌ إلى شكلها الظاهر. فالأمر هنا أمر شعور وتذوق، وليس أمر تعديل وتشريع.. فمن أقام الصلاة على معناها الظاهر فهو مسلم، ومن أقامها بشكلها الظاهر متذوقاً لمعناها العميق، فهذا هو الصوفى المسلم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى