ثقافة وفن

كيف يرى الفلاسفة الحُب؟ بين اختيار الوحدة وتعدّد العلاقات

رُبما يرفض بعض الفلاسفة وقوع الإنسان في الحُب لأسباب هي نفسها التي تجعل الآخرين يقبلونه، سنحاول من خلال هذا التقرير أن نستعرض مجموعة آراء لأشهر الفلاسفة عن الحُب، كما سنتحدث عن التجارب العاطفية في حياتهم وكيف أثرت في تشكيل آرائهم، وسنحاول أيضًا الحديث عن مواقف شديدة الخصوصية في حياة هؤلاء.

 

هايدجر وحنة أرندت.. حُرية الحُبْ أم حُب الحرية؟

قال هايدجر في رسالته لتلميذته «هذا ما أنتِ عليه بكاملك وما ستظلين عليه، وهكذا أحبك».

من يعرف هايدجر يعرف على الأرجح كتابه الشهير الكينونة والزمان الذي تعرض فيه لمغامرته العاطفية مع تلميذته حنة أرندت وقال إنها كانت مُلهمته والأكثر مُلاءمة لحياته. أرندت حوّلت هايدجر من مُفكر أنطولوجي إلى فيلسوف عاطفي على حد قوله.

قال هايدجر إن الحُب والكُره يُشكّلان المعرفة، يعني ذلك بحسبه أن الإنسان يحمل في داخلة القُدرة على السمو، التي تضعه في علاقة مع الأشياء ومع الآخرين ليكون مفتوحًا على العالم ويختار بنفسه ما يُحب وما يكره.

يُسهب هايدجر في شرحه مؤكدًا أننا يُمكننا تغذية الكراهية ولا يُمكننا تغذية الغضب، فالحُب والكراهية لا يستلزمان وقتًا أطول فقط، بل إنهما كما يقول هايدجر، الشعوران الأصليّان الوحيدان اللذان يحملان مسافة زمنية واستمرارية حقيقية في وجودنا.

بحسب هايدجر، يُمكن للعاطفة أن تجعلنا واثقين من أنفسنا أكثر، وتجعلنا أيضًا نشعر بالسيطرة على العالم من حولنا.

تتفق معه في ذلك حنة أرندت، حيث أكدت نفس المعنى بعبارة أخرى حين قالت «إنه لا شيء يقودنا نحو قلب العالم النابض مؤكدًا أكثر من (الحب)».

ترى حنة أرندت أن ارتباطنا بشخص ما، يعني أننا نخوض تجربة الحياة الأكثر خصوصية، بحيث يكتشف كلا الطرفين كيانهم الناقص، وإنه كان لِزامًا لنا وجود هذا الآخر أو الحبيب، لأن هناك كيانًا آخر يُعطينا من إمكانياته ومن عالمه ومن وقته، أيضًا ويوفّر لنا أن نظل مُحاطين بالغموض، فيكون القريب نتيجة معرفته بالأشياء الأكثر خصوصية لنا، والغريب كونه لا يزال (آخر)، أي إنه بالرغم من كل القرب الذي يجمعك به، لكنك تظل تتعامل مع هذا الآخر كشخص مختلف عنه، وتفكّر كيف يشعر الآن؟ وماذا يريد؟ رغم ما بينكما من قُرب.

كُل هذا الحُب جمع بين أستاذ جامعة مُتزوج ولديه طفلان وبين تلميذته التي تصغره بـ17 عامًا. كان هايدجر يقول لها دائمًا يجب أن ينفتح كلً منهما على الآخر، ويتركا الأمور تسير على ما هي عليه، إذ يجب على كل منهما أن يتعامل بحرية مع الآخر ومع العالم من حوله؛ أنت تُحب الآخر كما هو بلا تغيير.

رُغم ذلك لم يُغير هايدجر في النهاية مسار حياته من أجل حنة أرندت، فهي على حد قوله: «كانت تُريد المزيد، أن تكون مِلكُه وأن تعيش بجانبه، بينما أراد هو أن تكون حُبه الأناني، وأن تظل مُلهمة ابتكاراته النظرية، أما مسألة أن يترك زوجته فلم يتقبل مُجرّد النِقاش فيها»، لذلك قررت حنة وقتها أن تُنهي تلك العلاقة العابرة وترحل.

يَمُر الوقت ويجد هايدجر رسالة من حبيبته أرندت قُبيل زفافها تقول فيها «لا تنسني». ظلت الفتاة تُحبه حتى التحق بالحزب النازي آنذاك، مما جعل المعارضة الشرسة للنازية تعتبره مات في نظرها. كان ذلك في الوقت الذي ظهر لهايدجر أكثر من علاقة تجمعه مع تلميذات وشاعرات أيضًا يبعدُهم فارق عُمر كَبير.

المُفارقة المُهمة هُنا أن هايدجر رغم تعدّد علاقاته ورغم أننا قد نعتقد أن حنة هي حُب عُمره، إلا أن حُب عُمره الحقيقي هي زوجته. كانت ألفريد (زوجته) تلميذته أيضًا التي تُمثل المجتمع الراقي له كونه كان الفقير ابن خادم الكنيسة.

انجذاب هايدجر ليس حُبًا قدر ما كان انجذابًا للتربية والتدين التي كانت تتحلى بِهما على حد قوله. تمّنى وقتها عشًا تتجمع فيه هذه الروح الطاهرة والطيبة معه، وكان هايدجر صادقًا مع ألفريد لكن تصوره عن الحُب كان مُختلفًا. حيث ألفريد هي الأنسب كزوجة، لكنها لا تُلخص العشق «والقدرة على إيجاد الآخر على الرغم من أي شيء ولو لبضع ثوانٍ».

لا ننسى قبل أن نُطلق أي حكم على هايدجر بخصوص كونه ظلم الفتاة البريئة ألفريد، أن نُبيّن اعترافها بشأن ابنهما الثاني هيرمان الذي كان الابن البيولوجي لصديق طفولة هايدجر فريدل كايسر، ولا يفوتنا هُنا أن نذكر ما قاله هايدجر وقتها لألفريد «أعرف منذ وقت طويل أن فريدل يُحبك».

على ما يبدو في الموقف من غرابة إلا أنه يتسق تمامًا مع فاعله الذي لا يجد مع تعدّد العلاقات إلّا مصدرًا للإلهام.

مرة أخرى، وبعد خلاف في حياة أرندت الحبيبة القديمة التي لم ينسها جعلها تعود لأوروبا مرة أخرى. أرسلت وقتها الرسالة الأهم لحبيبها الأول هايدجر تقول إن الإخلاص يجعلنا نتقبل فكرة أن الحياة تستمر على نحو ما في مكان آخر يوجد فيه حبيبي مع شخص آخر، والخطيئة الوحيدة التي يُمكن أن يرتكبها الحبيب في حق حبيبه هي النسيان، النسيان فقط.

لم تكن قصة حنة أرندت ومارتن هايدجر قصة حُب مُخلص على الإطلاق، ولكنها ربما كانت قصة الإخلاص في الحب.

مأدبة أفلاطون.. للرجال فقط

في مكانٍ ما داخل أثينا، مُنذ عدة قرون، في منزل الشاعر أجاتون، أقيمت هذه المأدبة أو الجلسة الأدبية التي يحضرها مجموعة من الشباب والكهول المنفتحون على أنماط مختلفة من الممارسات الجنسية والسُكارى أيضًا.

اختار أفلاطون من خلال هذه المأدبة الفكرية أن يعرض آراءه عن الحُب، واختار سقراط من خلالها أن يُمثل الصوت النسائي في الجلسة، فهو يقدّم رأيه على لسان السيدة «ديوتيم دومانتيني» مقررًا بذلك اكتشاف حقيقة الحُب دون غيره من الجلوس.

يتساءل سقراط أننا إذا اعتبرنا الإنسان لا يرغب إلّا فيما لا يملكُه، إذًا لماذا نعتبر الحُب تعبيرًا عن الخير والجمال؟ رغم إنه بالنسبة لسقراط لا يتعدى فعلًا حقيرًا أنانيًا، كما يتساءل سقراط لماذا لا نرى من الحُب سوى جزء صغير تمامًا؟

يقول سقراط إن الخطأ ينشأ من اعتبار وجود الحُب مُتحققًا حين يحبنا أحد، وليس حين نُحِب أحدًا، وأن إدراك الحب عمومًا من وجهة نظره يتعلق بالسؤال الأساسي؛ لماذا أُحِب؟ بدلًا من سؤال لماذا أُحَب؟

يرى سقراط أن الإنسان يتطلع للخلود رغم يقينه بالفناء، فالحُب عند سقراط هو حُب الجمال عمومًا؛ الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش؛ هو أن نشعر بالجمال عمومًا.

في المقابل يعرض أفلاطون تصوره عما يُسميه ذرية الحُب. يقول إن الآلهة اجتمعت في يوم ولادة أفروديت بحديقة زيوس وكان بينهم (إكسبديون) ابن آلهة الحِكمة، بالإضافة إلى المرأة الفقيرة المتسولة التي كانت تجمع الفُتات مستغلة نوم الإله (بورو) وابنه الذي ثَمِلَ من شُرب الخَمر، هكذا نشأت هذه الذُرية. الأم ليست جميلة ورقيقة كفاية بالإضافة إلى كونها فقيرة لكنها تحت مراقبة والدها الفيلسوف العاطفي عاري القدمين الذي يُمثل الخير والجمال.

أشار أفلاطون إلى أن الإله أيروس هنا هو ما يُشكل هذا الاحتياج أو الفقد، الذي نشعر به والذي يحثّنا على البحث عن شخص آخر، حيث يعرف أفلاطون الحُب بأنه تلك القوة والطاقة التي تُساعد الإنسان على بلوغ الخلود الأوحد، إما بالأبناء أو بالإنتاج الأدبي؛ كلٍ منا يختار طريقة خلوده الشخصي.

يتدخل الصديق أريخياموس ويقول إن الحب يدفع الإنسان نحو التصرفات الصائبة؛ فالإنسان لا يستطيع أن يفقد شرفة أمام محبوبه حتى في لحظات الموت، وإن جيشًا من العشاق قادر على هزيمة جيش لا يُهزم، لأنه يعتبر أساسًا علاقة بين الإنسان وربه. يحمل الإنسان بداخلة صورة هذا الرب الإعجازي الذي يحثّه على الاحتفاظ بكُل جميل.

لكن يُعارضه الشاعر أرستوفان المعروف بعدائه الشديد لسقراط بقوله إن البشر أنصاف ومشوهون، ويحاولون أن يجدوا أنصافهم الأخرى ليتّحدوا ويتبادلوا الأحضان «فالإنسان في الأصل كيان ناقص وعليه أن ينطلق بحثًا عن نصف البرتقالة لعلّه يجد السلامة في ذلك النصف الآخر، فنحن كبشر دائمًا ما نبحث عن توأم الروح الذي يعيدنا لطبيعتنا الأولى مرة أخرى».

فريدريك نيتشه: نعم أنا قتلت معشوقتي كارمن!

«يتمثّل الجُرح في عدم سماع إجابة ولا أقل من ظفرة إجابة، وأن تحمل منفردًا؛ في وحدة مُرعبة، الحِمل الذي طالما أردنا مُشاركتة والذي طالما تمنينا أن نُلقيه على آخرين»، قال نيتشه ذلك في خطابه لصديقه تلخيصًا للحالة التي كان يَمُر بها، ومن هنا نود الحديث عن الحُب عِند نيتشه.

توضّح لنا مسرحية أوبرا كارمن لجورج بيزيه التي قدّمت عن رواية تحمل نفس الاسم، التّصور المثالي للحب في عقل نيتشه؛ القصة تحكي عن الفتاة التي قُتلت حتى لا تكون أسيرة للشخص الذي تُحبه، بالتالي فالحُب بالنسبة لنيتشه يلتهم المُحب ويتمّلكه «حتى الرب جهز الجحيم لأولئك الذين لم يحبوه»، لأن الحب يخشى التغيير أكثر مما يكره الدمار.

يُفسر نيتشه الحب أو العلاقة بين الرجل والمرأة بأنها ترتكز على عدم مُساواة، فالرجل يمتلك والمرأة تمنح نفسها، ثم يهاجم المرأة التي تُخفي قوتها وراء طبيعتها الضعيفة، وهذا السبب فقط هو ما يجعلها ترفض قانون الأقوى وتحاول القضاء عليه بغوايتها للرجل من وجهة نظره؛ هدفها الرئيسي هو وجود طفل ما يجعلها أُمًّا؛ إذن العلاقة بين الرجل والمرأة نفعية مُستترة، يبحث الرجل عن الرجل المثالي في المرأة، وتبحث المرأة عن المرأة الأمثل في الرجل، أي إننا لكي ننجح (نحن) لا بد أولًا أن نفهم (أنا) بوضوح.

«من أي نجم سقط أحدنا على الآخر»، هكذا قال نيتشه البالغ من العُمر 38 عامًا، إلى تلميذته «لُو» ذات الـ20 عامًا، وأراد الزواج منها لولا رفضها لفكرة الزواج عمومًا.

المفارقة أنها حققت بذلك الرفض، ما كتبه نيتشه نفسه قبل ذلك طالبًا من المرأة أن تكون هي اللعبة الأكثر خطورة للرجل، على ما يبدو فهذا هو نفسه السبب الذي جعله يُحبّها دائمًا.

لا نعلم إلى الآن لماذا أراد نيتشه الزواج رغم مُعارضة ذلك لما كتبه في إنساني مُفرط في إنسانيته؟ كتب إن الروح الحُرة تكره كل العادات والقواعد وكل ما هو نهائي، واعتبر خصومة النساء لطيفة بالنسبة لرجل ينطلق في بحور المعرفة. هو يقدّر الحُب لكنه يكرة سُلطة الكنيسة والزواج لأن ذلك يُحول العاطفة أو الحُب إلى كيان مؤسسي.

يَعتبِر نيتشه الزواج أسر يُقيد الفرد، حيث أكد على منع أي شخص حين يكون عاشقًا أو مُحبًا أن يتخذ قرارًا يكون مُلزمًا له طوال حياته، لكنّه استثنى هذه الحُرية التي يُهدّدها الزواج في حالة وحيدة، أن يكون قائمًا على الصداقة والاحترام المُشترك، لأن العاطفة والجنس وروعة الأيام الأولى أشياء مؤقتة، وعلى المرء أن يسأل نفسه أولًا هل يستطيع أن يظل مع المرأة التي اختارها حتى في شيخوختهم؟

يرى نيتشه أن الحُب شعور أناني، فنحن نُحب لأن ذلك يُشعرنا بالرضا ويثير فينا أحاسيس المُتعة التي نرغب بها، ونُعطي لأننا نشّعر أننا مُحَبّون وهكذا فسعادتنا أنانية نوعًا ما، رُبما لذلك وافق على اقتراح حبيبته؛ أن تعيش معه ومعهم رجل ثالث – صديقه ريكليه – في بيت واحد لأنها تُحبهما معًا.

رغم ذلك أيضًا قال نيتشه حينها إنه شعر بقلبه يصعد إلى عقله وقرر رسم حبيبته لو تُمسك سوطًا في يدها وتعتلي عربة يجرها مُفكران – هو وصديقه – رمزًا لخضوعهما الكامل لهذه الصغيرة، واعترف بعدها إنها لا تُحبه كما يُحبها، وإنه لم يعنِ شيئًا لها غير كونه مُجرّد برهان على الذوق الجيد.

صارع نيتشه الوحدة كثيرًا لكنه بعدما تجاوز ذلك أيقن بعدها أن الحب هو المخلوق المحوري لكل شيء فالأمرلا يتعلق بعادة أن نحيا بل بعادة أن نُحب.

سارتر وسيمون دي بوفوار: زوج من الكلمات والأفكار

كتب سارتر لحبيبتة دي بوفوار «ها هنا أساس فرحة الحُب حين تتوفر، حين نشعر أن وجودنا مُبرّر، أن أصير محبوبًا فأنا لم أعد عُنصرًا مُنفصلًا عن أساس العالم، أنا ذلك الذي عن طريقه يرى شخص آخر العالم، أن أكون محبوبًا فأنا أصبح العالم نفسه. ماذا يُمكن أن نضيف أكثر من ذلك؟ فلم يحدث أن كشفنا عما يدفع رجالًا ونساء إلى أن يلقوا بأنفسهم ببوهيمية وبشكل مُتواصل نحو شعور يدمّرهم أحيانًا، ويُضلهم غالبًا، ويُنقذهم في أندر الحالات».

كانت الفتاة الفقيرة دي بوفوار قبل علاقتها بسارتر تتألم من أفعال والدها السُلطوي، وما يفعله معها، تُحب شابًا جميلًا كما تصفه، لكنّه لا يرى النساء إلّا كمُتعة جنسية، يُمكنه الاستمتاع وقضاء وقت سعيد معهُم. وتركهم بعد ذلك. بالطبع تركها بعد حصوله على الشهادة.

وسارتر الذي لم يتعد طوله الستون سنتيمترًا بعد المائة، الرجل الذي تركته خطيبته أيضًا؛ وأثر ذلك بشكل كبير عليه، اعترف بعد ذلك أنه شعر في وقت ما بشعور يسمونه الغيرة تجاة تِلك الفتاة التي تركته.

على ما يبدو كان الأمر مُهيئًا للارتباط، وقتها اختارت الفتاة دي بوفوار الفيلسوف سارتر رُبما نكاية في الشاب ليس إلا، أو رُبما حُبًا في فلسفة ذلك الوالد الكبير؛ ورُبما على حد قول محمود درويش «كان شاعرها وهذا كُل ما في الأمر» كانت دي بوفوار تُعرف حبها على إنه «الخزي الرائع أمام من تجاوزها للمرة الأولى».

كزوج من العشاق نجيا من العادات والتقاليد المُجتمعية «المُزعجة»، بحسبهما. يتساءل النُقاد هل كان حُبًا ذلك الذي جمع هؤلاء أم ماذا؟ لا نعلم، لكن نعلم الاتفاق الذي تم بينهما، حيث الحرية الجنسية والعاطفية لكلٍ منهما.

عبّر سارتر عن ذلك أمام الناس أن ما بينهما هو حُب ضروري على حد وصفه، بينما يجب على المرء أن يمر بحب عابر من وقت لآخر. السؤال المُهم هنا كيف يتأقلم الشريك الثالث هذا مع هذا الاتفاق؟ والأهم من ذلك كُله كيف يُمكن للحُب أن يُصبح عارضًا أساسًا؟

أثناء علاقة سارتر بدي بوفوار كان الرجل على علاقة أيضًا مع (أولجا) وعلاقة غيرها مع أختها (واند). في خطاب كتبه سارتر لدي بوفوار أكد أنه يشنق كُل حب أو عاطفة يشعر بها بدافع من الخوف. وصف ذلك إنه ربما يقتل الحياة نفسها ليحيا بشكل أفضل أو لمُجرد أن يُنهي عملًا أدبيًا يتحدث عن الحُب.

ما كان يُخيف دي بوفوار من الزواج والحُب المؤسسي ويجعله في نظرها لا أخلاقي أننا نختار شخصًا للبقاء معه طول الُعمر أو رعب الاختيار النهائي على حد قولها، وخوفها الطبيعي الذي استمر نتيجة سلطوية أبيها، وحَلُمَتْ طوال الوقت بـ«حب قائم على الحرية والمُساواة»، وكتبت إن «اليوم الذي ستتمكن فيه المرأة من الحُب بقوتها لا بضعفها، لا لتهرب من نفسها بل لتجد نفسها، لا لتمحو بل لتتأكد، لهو اليوم الذي سيكون فيه الحُب للمرأه مثل الرجل؛ مصدرًا للحياة وليس خطرًا مميتًا«.

«ستظل هذه الحقيقة للأبد، أنني أحببت شخصًا بكل قواي، دون عشقٍ أو روعة، ولكن من أعماقي»، هكذا وصف سارتر علاقتة المُلهمة بتلك الفتاة الجريئة، إذ أنه من المستحيل علينا تقييم حُب ما. الأكيد أن سارتر أحب كثيرًا فالحرية التي يُحققها الحب لسارتر – ولغيره – يعتبرها أهم من الحب نفسه.

إيمانويل كانط.. ممنوع الاقتراب أو التصوير

«حتى العلاقة الجنسية التي يسمح بها الزواج، ينبغي أن نُغلفها بالكثير من التهذيب حين نتحدث عنها في المجتمع المُتحضر» على حد قول كانط الذي يرى الجنس بدون حُب عمومًا يهبط بالمرء لمرتبة الحيوان. ذلك الرجل الذي لم تدخل حياته لا امرأة ولا أولاد ولا انحراف جنسي ولا علاقات غير شرعية، مُجرد خادمة عجوز تهتم بأمور المنزل، لكنّه كان مهووسًا بالموضة ومليئًا بالمرح.

يتساءل المفكر بوروفيسكي صديق كانط لماذا لم نر كانط مُتزوجًا أبدًا؟ وأجاب على ذلك إنه بالفعل كان هناك فتاتين تُناسبانه تمامًا في وقت ما، مال إليهما كانط، لكنه مع بُطأ فيلسوف كبير وتردده في اتخاذ قرار مثل ذلك، تزوجت واحدة ورحلت الأخرى. إذًا لم يُنكر كانط احتياجه للمرأة، لكن برّر ذلك أنه «وقت احتياجه لامرأة لم يكن لديه ما يُطعمها به، وحين امتلك ما يستطيع أن يُطعمها به لم يعد يُريد امرأة في حياته».

إيمانويل كانط كان يُحافظ دائمًا على الحديث المستمر مع أصدقائه، وكان دائمًا ما يمدح المرأة التي تهتم بأمور الطهي والمطبخ وأعتبر ذلك هو دورها الرئيسي، حيث تخفيف أعباء الرجل وهمومه بعد يوم عمل شاق بوجبة جميلة «إن ذلك لشرف عظيم» على حد قوله.

كما تجنّب كانط طوال الوقت تبادل الآراء العلمية مع النساء. يقول بروكوفيسكي إنه حتى لو توجهت إليه مرأة لتُصحح هذا المفهوم التقليدي للمجتمع النسائي، وتقول إنه يُمكن للمرأة أن تكون سيدة مُجتمع ومثقفة مثلها مثل الرجل كانت إجابته الدائمة على ذلك إن هذا لم يُغير من الأمر شيئًا. أي يظل النساء مكانهم في المطبخ من وجهة نظره.

رُبما لأنه نأى بنفسه عن الزواج، سمح له ذلك بالمزيد من التريث في إطلاق أحكامه تجاه هذه القضية. يوجّه كانط أنظار الجميع بأننا علينا أن نتخلص من تلك النظرة التي تعتمد على عرض الرجل وامتناع المرأة للدخول في علاقة؛ مما جعله طوال الوقت يُعرض عن الدخول في علاقة رسمية أو غير رسمية مع امرأة.

«آرثر شوبنهاور» مُخلص العزوبية الأعظم

«تتأرجح الحياة كبندول الساعة يمنة ويسرة من المُعاناة إلى الملل، ففي هذا العالم الذي يَضُم حوذيًا يضرِب الحُصان بقسوة، وآهات ألم تنبعث من نوافذ المستشفيات؛ هو عالم من العبث، ولا يُمكن أن يُعمّره كائن طيب حسن الخُلق لكن ينفعه وحش نيروني يتلذذ بمعاناة من حوله» *آرثر شوبنهاور

في محاولة وُصفت بالانتحار سقط أبوه الذي كان يريد التخلّص من حياة الوحدة التي كان يعيشها، رغم كُل الحب الذي كان يُحبه لزوجته والدة شوبنهاور التي كانت مشغولة بعُشاقها وفساتينها أكثر، كانت كاتبة ولديها صالون أدبي ولها روايات تتحدث فيها بفخر عن تعدد علاقاتها. رُبما يُفسر ذلك كُره شوبنهاور للنساء عمومًا وللحُب أيضًا الذي اعتبره «ممارسة الجنس لآخر الليل في مكان مُظلم تمامًا».

يتساءل شوبنهاور لماذا يتبادل هؤلاء الذين تقولوا إنهم يُحبون نظراتهم الخاطفة بعيدًا عن الناس وفي الخفاء دائمًا إلّا إذا كانوا خائنين في نظر الجميع وحتى هما يعرِفان ذلك لا شعوريًا، ويوقن أن السعادة الحقيقية الوحيدة في ألّا يُخلق الإنسان أساسًا لأن الألم والموت يبحثان طوال الوقت عن ضحايا جُدد.

في كتابه العالم إرادة وتمثّلا يشرّح شوبنهاور نظرته عن الحُب ويستنكر فكرة أن امتلاك امرأة بعينها يعني امتلاك السعادة الأبدية أو أن فقدان امرأة بعينها يعني المُعاناة المُستمرة، فبينما يعتقد الرجال والنساء عند الاختيار العاطفي أنهم بذلك مُستّقلون ومسؤولون يكونون في الواقع أسرى حسابات نفعية ومادية تتعلق بجِنسهم، وإنه في اللحظة التي يختار الفرد فيها «توأم روحه» أو كما يقول «سبب كُل عذاباته» يبدو في أكثر حالاته خضوعًا لضرورة حتمية موضوعية أو بحسبه «شكل حقير وهي حتمية مُخزية» لأنها تتعلق باستمرارية كابوس تتوارثه الأجيال.

أكّد شوبنهاور في محاضراته على عدم أهلية الكثيرين للحديث عن الحب أساسًا، وتعامل مع نفسه كونه المُجدد إذ ينصحنا جميعًا أن نجعل الحُب مُجرد وسيلة رفاهية لضياع الوقت، فهو يكره النساء لأنهم الوسيلة لبقاء الجنس البشري وإعادة إنتاجه، والرجل بالنسبة لشوبنهاور مسكين وضعيف يعيش مع «مجنونة وتافهة» ويجب تدميرها، واعتبارها جنسًا ثانيًا، ويتساءل لماذا نُطلق لفظ الجنس الجميل على تلك المخلوقات «القصيرة عريضة الأرداف»، بحسبه؟

أسّس شوبنهاور بذلك نظريته حول تعدد الزوجات حيث لا يمكننا من خلال ذلك العثور على «عانس» أو عاهرة تجوب الشوارع لتُمارس الجنس نتيجة فقدنها لزوج على حد قول شوبنهاور. ويلفت شوبنهاور أنظار الجميع إلى جمال المرأة المبهر في سنواتها الأولى، الذي تخدع به الرجل للوقوع في حُبها باعتباره فخًا كبيرًا يمنحه الرب للمرأة لإنجاز حصولها على زوج فقط.

يعلم شوبنهاور جيدًا مدى العداء الذي يُسببه انتقاده للنساء؛ مما جعله يُبرر ذلك مُعتبرًا النساء عمومًا لا تفقه شيئًا عن الحُب وإنه لا يرى أي محبة صادقة بين «ذوات الشعر الطويل والأفكار القصيرة؟» أيضًا يُشبّه الخصومة الاستثنائية التي تحدث بين الرجال أبناء العمل الواحد بالخصومة التي تحدث بين النساء جميعًا طوال الوقت، إذ إن المرأة لا تحترم جنسها في الأساس فلماذا تُحترم؟ وذلك بحسب الفيلسوف عدو المرأة.

أيضًا يعترف شوبنهاور أن الرجل لا يستطيع استكمال حياته الجنسية مع امرأة واحدة، كما لا يُمكن للمرأة أن تُشبع رغبتها الجنسية وتوهجها برجل واحد، ويرى أن على الذين يريدون الزواج قبول المعيشة الثلاثية، التي تسمح بممارسة الجنس للجميع على حدة، لأنه يعتبر الشهوة الجنسية هي التي تكوّن جوهر الإنسان. هو يُريد للجميع التحرّر والشجاعة في مواجهة المخاوف والأحزان، يجب على الجميع الضحك في مواجهة ملهاة العالم، فالجميع يذهب للموت وبدون الحُب تُصبح الأشياء أقل تأثيرًا علينا.

كيركيجارد: الزواج السعيد ذروة الحُب

«ما نتذكره ليس أننا أحببنا المرأة الأجمل في الدُنيا ولا أننا عشنا سُعداء مع الزوجة الأكثر لُطفًا في الحياة، ولكن أننا عانينا كثيرًا من أجل الحقيقة». *كيركيجارد

هناك كائن مائي يغوي الفتيات ويسحرهن ثم يأخدهن معه إلى الأسفل للأبد، في إحدى المرات التقى آنيس، الفتاة الجميلة ذات العينين الصافيتين، مما جعله يتردد هذه المرة ويتساءل كيف يستطيع أن يأخذ هذه الجميلة التي استطاعت أن تولِد في قلبه مشاعر حُب كانت مجهولة قبل ذلك؟ قرر أن يُعيدها إلى عالمها ويعترف لها بحقيقته الشيطانية، ويتركها وهما يتمزقان معًا، ليقينهما بحبهما المُستحيل، ويختفي مرة أخرى في قاع المُحيط.

في كتابة «خوف ورعدة»، ذكر كيركيجارد هذه الأسطورة، لتُعبر عما بداخله، ويُعلق كيركيجارد «سقطتُ في أعماق المياة وأصبح كل شيء مُعتمًا أمام عيني، ولكنني بزغت من جديد» ويترك حبيبته هو الآخر رغم حبه المطلق لها.

في خِطابه لريجينا أولسن حبيبته الجديدة كتب كيركيجارد: «إذا تعيّن علي أن أصوغ اعترافًا، فأنا أعرف جيدًا أي اعتراف سأكتب، وإذا تعيّن علي أن أكتُب سبع أمنيات، فأنا لا أعرف إلا أمنية واحدة سأكررها سبع مرات، حتى وإن كُنت أعرف أنها تتحقق من المرة الأولى، تِلك الأمنية هي قناعتي الأكثر عُمقًا وهي أن: لا الموت ولا الحياة ولا الملائكة ولا الأمراء ولا أصحاب النفوذ ولا الحاضر ولا المُستقبل ولا أي مخلوق على وجة الأرض يستطيع أن يبعدني عنكِ أو يبعدني عنك».

وبذلك يقع في الحب مرة أخرى؛ ريجينا أولسن الجميلة اهتم بها كثيرًا ودرس معها الموسيقى، وبعد ثلاث سنوات من علاقتهما تقدم لخطبتها وهو نفس اليوم الذي دوّن فيه في مذكراته أنه ارتكب خطأ فادحًا فـ«بالنسبة لتائب مثلي، يكفي ما لدي من حُزن»، على الرغم من كونه هو المُتقدم للخطبة وإنه فعلًا يُحبها.

لم يمض عام وقرر كيركيجارد إنهاء العلاقة، لكنّ ريجينا هددته بالانتحار إذا تركها، فاستمرت العلاقة شهرًا ونصف آخر دون جدوى. قرر الشاب ترك الفتاة وفي يأس تام أخبره أخوه إنه قد خسر. لم يرد وقتها لكن بعد ذلك بسنوات كتب له إنه «إذا كان قد أصبح شيئًا فتلك الخسارة هي ما جعلته ذلك الفيلسوف حاليًا».

يظل السؤال لماذا ترك كيركيجارد حبيبته رغم استمرار حبه لها، حيث كان يُرسل صديقه لمتابعة أخبارها أولًا بأول، يتمنى أن يراها ولا يوافق على ذلك، أيضًا لم يدخل كيركيجارد في علاقة بعدها.

اقتنع كيركيجارد بكونه استثنائي يجب أن يحمل عذاباته مُنفردًا، ففي اعترافاتة قال «من الصعب أن أفهم نفسي بُعمق وسيظل الأمر كذلك لأنني أمتلك قدرة التحكُم في مشاعري وقد يكون ذلك لتعاستي، فعندما أريد أن أُخفيها لا يكون من السهل على أحد أن يقرأ أفكاري».

بنظرة على طفولة كيركيجارد نجده الفتى المُنعزل تمامًا الذي يرفض والده المسيحي الثري المُتشدد خروجه من المنزل لأي سبب، يعيش وحيدًا حتى بدون ألعاب تُسّليه، فُسحته كانت مُتوهمه؛ حيث يجعله أبوه يتخيل خروجه وهو داخل غُرفته. رغم ذلك علّمته أمه التي كان يُحبها أن يُحب والده رغم ما يفعله.

كان والده مهووسًا بكُره الرب له، لذلك قرر قتل جميع أسرته قبل أن تبلغ سن المسيح قُربانًا للرب. كيركيجارد دفن بنفسه والدته وخمسة من أخوته. واعترف له والده على سريرالموت أنه ابن الخادمة التي كانت بالمنزل.

أثارت علاقته لحبيبته تساؤلات دينية وعلاقته بربه، وأعادت لذهنه علاقته بوالده، واعتقد أن السعادة الأبدية مُتعذرة عمومًا فحبه لفتاة ما أشبه بخروجه من الزمن لفترة وهو يعلم أنه سوف يعود بعد قليل ومعه ألم الذكرى. رُبما يُفسر ذلك اختياره البقاء بعيدًا عمن يُحبهم بالإضافة لخوفه في التعامل مع العالم عمومًا.

رغم تأييدة لفكرة الزواج إلا أنه نأى بنفسه عنها، قال كيركيجارد إن من يستطيع إنجاح زواج هو من عرف بشكل شاعري حل الغرائبية الكٌبرى للحياة في الأبدية، وهو من يستطيع أن يبني مؤسسة ناجحة بعد ذلك.

جان جاك روسّو: وهم الحُب

«ما مِن تعلّق من دون قلق يفيض من الأعين، فالمشاعر جميعها مُعَذَبة ومُعّذِبة» هكذا وصف روسو عواطفه المُختلفة، فالحُب عند روسو حدث ما لا يجعله في سعادة دائمة، فهو يقع في الحُب وسريعًا ما يشعر بالذنب، أول مُمارسة جنسية وأول عاطفة واجهت ذلك الشاب كانت مع السيدة وارين التي تكبره كثيرًا، فَرِح روسو بالعلاقة لكن سرعان ما ندِم كثيرًا بعد ذلك، لكنه لم يعرف السبب في ذلك.

نستطيع أن نقول إنه تمنى الحُب ووقع فيه نظريًا لكن كانت تدور في رأسه كل الأفكار التشاؤمية، مُتمثلة في المنافسة الجنسية إلى جانب حُب الذات والانشغال بالتملك، والرغبة في مُمارسة الجنس التي يحتقرها روسو ويصفها بأنها احتياج غير طبيعي، لكنه بالرغم من ذلك يرى أن «الحُب قوة مُعدية تجعلنا نُقبل على تجربة هذا الحدث الغريب والمُشوق الذي يجعل من الأشخاص؛ أشخاصًا آخرين».

أوضح روسو فرضيته التي تعارض ذلك في إطار خوف وتردد حين قال: «إن العِبرة من الحُب شعور اصطناعي، يستخدمه المُجتمع له واحتفت به النساء ووفرت له الكثير من العناية ليُخضعوا الرجال لمملكتِهن ويصبحوا الجنس المُسيطر»، لذلك كان من الأفضل من وجهة نظر روسو أن نُحب من بعيد وأن نبقى وحيدين ونظل كذلك حتى نعتاد عليه.

الحُب يُعد وهمًا في تصور روسو، لكنه ضروري ومُهم لما يولّده داخلنا من شعور بالجمال يجعلنا نتخلى عن عمل كل ما هو قبيح. حيث قال روسو ذات مرة «إن أكثر النُسّاك ورعًا ليسوا في مأمن من أن يصيروا أطفالًا صغار أمام امرأة جميلة« مع ذلك هو يرفض التعلق بفتاة ويرفض الحب باعتباره حدثًا يؤدي لدمار حياتنا كلها. كما يصف روسو الممارسة الجنسية التي تحدث بلا حُب بالعبودية التي تُفقدنا احترام ذاتنا.

كتب روسو مرة إنه على المرأة أن تختار إما الزوج أو الدولة فالمركب لا تحتاج لقائديِن، كما أنه لم يحطّ من قدر المرأة عمومًا لكنّها تكملة أدوار«لُيُشكّلا معًا إنسانًا متكاملًا« يعتمد الرجل على المرأة فيما ينبغي أن يراه، وتعتمد المرأة على الرجل فيما ينبغي أن تفعله.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى