“الوقف الثقافي” بأكادير والجهة.. ومثقفون حوّلوا منازلهم مزارات ثقافية – فنيّة
ركن سيّارته الرّسمية برصيف مسجد حيّ النهضة.. ترّجل هو وحرمه نحو منزل بطابقين في الجهة الأخرى.. دلف بخفّة نحو الداخل دون أن يثير ذلك انتباه أيّ احد من المارة إلا بعض الفضوليين مثلي الذين تساءلوا عن خلفية زيارة القنصل الفرنسي صبيحة هذا السبت لهذا المنزل الذي لا تختلف واجهته الخارجية عن بقية المنازل المجاورة ولا يحمل أية علامة تمييزية أو إشارة توصيفية..
لكن وانت تطأ العتبة بخطوتك الأولى تسافر لمدة ساعتين نحو عوالم طبيعية وجغرافيات بشرية وإثنية محاولاً الإمساك من خلالهما على هذا المكون السردي/البصري الجمالي المستفز لشعور المتعة والإمتاع بحس المشاهدة والتأمل..
أيّها السّادة أنا في معرض للصورة الفوتغرافية باكورة إنتاج للفنان الفوتغرافي العالمي سعيد اوبراييم لأكثر من ربع قرن عمر مسيرته الفنية عبر مختلف القارات والمشاركات الدولية والجوائز العالمية المعروضة بدورها داخل هذا الفضاء الفني الإستثنائي.. بل يقف الزائر عن هذا التطور السريع لآلة التصوير من خلال بعض نمادجها الموثثة للمكان..
هي مساحة منزل عادي لا تتعدى المئة متر تقريبا بباب يفصل بين عالمين..
وفي العمق بين قناعتين بين من يرى هذا المنزل سومة كراء مربحة ومغرية جدّاً.. وبين من تجاوز ذلك نحو السمو والروح والجمال..
هي تجربة هذا الفنان الذي أوقف منزله الخاص خدمة للثقافة والفن.. كنوع من الوقف الثقافي الذي لا أرى أي اختلاف مع بقية الأوقاف ذات الصلة بما هو ديني وتعليمي.. كل ذلك في صمت..
طبعا فكل ما هو حقيقيّ يكون دائماً صامتا
هذه التجربة الروحية ليست وحيدة بأكادير الكبير والجهة عموما.. ففي الشارع الرئيسي لحي تراست بمدينة إنزكان بالكاد ترمق لوحة مكتوبة على واجهة إحدى المنازل ” متحف تهيا للتراث الأمازيغي”
شكل المنزل بالداخل هو نفسه تراثيّ في توزيع الفضاءات كما الألوان تقودك المعروضات نحو المطبخ الأمازيغي القديم فتتساءل عن عمر هذه الأواني المستعملة في الطهي بين ما هو طينيّ طبيعي وبين معدن النحاس.. وتدلف إلى قاعة الأزياء بمختلف الأنواع الخفيفة والصوفية.. إلى الحلي وزينة العروسة والعريس..
تنهي جولتك باستحضار تاريخ حضارة يحاول هذا المتحف جاهداً أن يوقف هذا الاندثار التي تتعرّض إليه.. من خلال هذا المجهود الشخصي للمناضلة الشريفة الأستاذة مليكة بيتي التي لم توقف هذا المنزل فحسب بل والعمل على اقتناء كل ماله علاقة بالثقافة والحضارة الأمازيغية ومنذ مدة حتى استطاعت أن تؤسس هذا المشروع الفني الكبير خدمة للثقافة المغربية بشكل عام.. بعيدة عن بهرجة الشعارات والندوات
وغير بعيد وبنفس المنطقة حي تراست وفي إحدى البؤر السوداء ذي الكثافة السكانية والهشاشة الإجتماعية وفي غياب أي مرفق فني وثقافي وبين الأزقة والدروب توقفك مكتبة بجمالية استثانية تفرّقت على بعض المكتبات الرسمية. سواء من حيث الصباغة والتجهيزات الحديثة بجانب الثأثيت المريح لروادها.. ناهيك عن عناوين الكتب المتعددة والمتنوعة ومن مختلف المعارف والاتجاهات كمّاً وكيفا..
هو منزل خاص اوقفه الاستاذ والكاتب /القارئ الالمعي مولي محمد بوعدّي ابن المنطقة عاد إليها كي يزرع فيروس القراءة وسط هذا الحي الشعبي بكل المقاييس كفعل نضالي ثوري صامت طبعا..
حتّى في القرية السوسية نجد تجربة الوقف الثقافي حاضرة بنفس المعنى والأسلوب.. وغير بعيد عن المركز وانت في الطريق إلى منتجع تيفنيت تنعرج نحو اليسار في اتجاه قرية ايت ميمون تتفاجئ باطفال القرية يرشدونك نحو مقر مركز تاوسنا للدراسات والأبحاث
نعم مركز معروف وسط ساكنة القرية الذي تحوّل بحكم أنشطته الإشعاعية الكبرى مفخرة لديهم.. ولم يكن إلا وقفا ثقافيا من أحد أبناء المنطقة المناضل المدني والحقوقي الدكتور خالد العيوض الذي أعاد بوصلة الهجرة نحو القرية الأصل واستطاع بالفعل أن ينجح في ذلك رغم قصر مدة التأسيس بتحويل منزل العائلة الذي يفوق نشأته عمر كل زوّاره من فعاليات ثقافية فنية وفكرية ممن أطروا أنشطة هذا المركز جهويا ووطنيّا..
تجارب استثانية بدأت تنمو وسط محيطنا الثقافي من فعاليات محلية تبحث من خلال هذا الوقف عن السمو بالفعل الإنساني إلى أقصى مستواه.. وهل هناك وصف لمن ترك إغراءات الحياة نحو الإشباع الصوفي للذة الروح..
هي مزارات ثقافية وفنيّة بكل المقاييس قد تكون خارج التصنيف الرسمي وقد تتعرض لأزمة الاستمرارية ما لم تنتبه إليها المؤسسات الثقافية الرسمية والتفكير في شراكة احتضان مع أصحابها وتسجيلها كمرقف عمومي للزوار والوافدين على المنطقة وفي ذلك اجتهاد..
ولأنّ المناسبة شرط تذكرت في نفس السياق المرحوم يحيى ايدر الذي أوقف منزله الكبير بإسم كلية الشريعة حولت المنطقة ذات الطابع القروي الفقير لكل شروط الحياة… إلى نقطة جذب استهلاكية بامتياز لتواجد شريحة الطلبة بالمئات، ولكم أن تتصوروا حجم الإنفاق اليومي والدائم..
كل هذه الحياة بفضل هذا الوقف الثقافي من طرف هذا العصامي الذي لم يفتح عينيه على السبورة لكنه استطاع أن يفتح أعين الآخرين علي الحياة..
لم يكن ينتظر أبداً أن يخلّد اسمه بإحدى شوارع المدينة.. فقد ترك صدقة جارية بعد رحيله..
على دربه وقبله آخرون بالجهة.. صار هذا الجيل الجديد من المثقفين وبهذا الموقف الخالد بعد أن ينتهي الحكي وينصرف الحكواتييون
يوسف غريب كاتب وصحفيّ