كوكاس يتتبع مسار بوليساريو من حلم التحرر إلى أوهام الانفصال فالصعود نحو الهاوية
صدرت الطبعة الأولى لكتاب “رؤية مغايرة لجبهة بوليساريو من حلم التحرر إلى أوهام الانفصال” للكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس، نهاية عام 2017 ولقيت ترحيبا مهما في الساحة الثقافية والإعلامية، لأن الكتاب خرج عن سياق اللغة التي اعتدنا رؤية الأشياء من خلالها.. نفذت الطبعة الأولى وظهرت معطيات جديدة على مستوى الوقائع الميدانية والتطورات السياسية، أو معطيات تاريخية خاصة مع صدور مذكرات سياسيين مغاربة وأجانب تخدم جانبا من الأطروحة التي أبرزها كوكاس في كتابه برؤية استشرافية لما يحدث بيننا اليوم، وتم تعميق النظر فيها وإضافتها إلى النسخة الجديدة.
رغم أن أطروحة الكتاب غير معنية بالتفاصيل والوقائع الجزئية وتنشغل بالجوهري الذي حدث في قلب التحولات المفصلية في تاريخ المنطقة، وفي صلبها مسار جبهة بوليساريو كحركة مغربية انطلقت من أحلام التحرر من المستعمر الإسباني وانتهت إلى الانفصال عن الوطن الأم بعد أن وضعت كل زمامها في رحى صراعات أنظمة الجوار، غير أن ما حدث في معبر الكركرات سيكون له ما بعده، إنه تحول مفصلي في سياق الصراع بالمنطقة.
“حاولت أن أقدم في هذا الكتاب، ما كنت قد اشتغلت عليه في مسار تطور حركة بوليساريو خارج القراءات الرائجة، المسكونة بعنف لغوي يُخفي تحت طبقاته الكثير من الحقائق، أو يتستر بالغير اليسير من الأوهام الإيديولوجية غير النبيلة، جالست العديد من مؤسسي البوليساريو في الداخل والخارج، زرت المناطق الجنوبية عشرات المرات، جالست العديد من متزعمي بوليساريو الداخل واستضفتهم في المنابر التي كنت أرأس تحريرها.. وها أنا أقدم هنا حصيلة جزء من مسار حركة كان كافيا طول الزمن أن يلبس نشأتها الكثير من طبقات الكذب وتصبح لغة التوصيف من هذا الطرف أو ذاك، لغة عنيفة لها مخالب وأنياب، ذلك أن الحقيقة هي أول ضحية في لحظة الصراع، والصدق هو الشهيد الأكبر في ساحة تاريخ أُدخل مختبرات العديد من الدول لها مصلحة في استدامة الأزمة”.
بهذا التوشيح يقدم الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس كتابه “جبهة بوليساريو.. الصعود نحو الهاوية” الذي صدر عن منشورات النورس في 144 صفحة، في طبعة منقحة ومزيدة فرضتها التطورات المتسارعة التي حدثت في المنطقة، وبروز مذكرات سياسيين وازنين كانوا رفقة مصطفى الوالي وشهودا على ميلاد حركة بوليساريو التي وقعت في قلب التجاذبات الإقليمية، فتحولت من أحلام التحرر إلى أوهام الانفصال، وهي تشهد اليوم صعودها نحو الهاوية.. فبعد ما يقارب نصف قرن من الضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة..
يرصد عبد العزيز كوكاس في الطبعة الثانية المزيدة والمنقحة لكتابه “جبهة بوليساريو.. الصعود نحو الهاوية”، التفكك التدريجي لجبهة بوليساريو بعد التراجع الذي أصبحت تعرفه الجزائر الراعي الأساسي للجبهة، منذ انهيار أسعار النفط بشكل مهول، وهبوب رياح الموجة الثانية من الربيع العربي ثم شغور الرئاسة لفترة زمنية طويلة، وما تلاه من شلل في رأس الدولة جعل جزءا من الجيش يبدأ في افتراس الجزء الآخر من الرأس بقيادة الجنرال القايد صالح وبعد رحيله سيتم الانقلاب بذات الأسلوب على الموالين له، وهو ما من شأنه يقول كوكاس أن يؤدي إلى شلل تام على مستوى الإستراتيجية السياسية التي كانت تحكم نسق التفكير والعمل السياسي للجزائر، في الجهة الأخرى ومع انهيار نظام القذافي، سوف تتدخل أطراف كثيرة حتى من أقصى رقعة جغرافية من الإمارات إلى روسيا وتركيا حتى التنظيمات الإرهابية، وستحاول إيجاد موطئ قدم لها ومع التهديدات الإرهابية القادمة من دول شريط الساحل، سيدفع أمريكا لإعادة ترتيب أوراقها في شمال إفريقيا في ظل زضع تصور جديد لمنطقة المينا التي تدخل ضمنها إسرائيل، وسيلعب المغرب دورا دبلوماسيا حيويا وهو يستشعر التغيرات الكبرى بالمنطقة ويستبق المبادرة تلو الأخرى ليكون حاضرا وفاعلا في ترتيبات المنطقة.
ينتهي كتاب “جبهة بوليساريو.. الصعود نحو الهاوية” إلى نتيجة من اثنين: إما عودة الوعي في مخيمات تندوف في ما يشبه ما حدث في خريف 1988 بعد نزيف أطر بوليساريو، والقبول بالنقاش من أجل وضع أفضل في إطار مشروع الحكم الذاتي وإما الانحلال التدريجي، لأن الأزمة الجزائرية مستمرة والشعب الجزائري لن يتحمل تكلفة قضية لا ناقة له ولا بعير، ومع مرور الزمن قد يأتي جيل جديد من القادة السياسيين لسدة الحكم في قصر المرادية، الذين سيفتحون دفتر مطالبهم ومصالحهم مباشرة مع الرباط لا مع الرابوني، والتاريخ كفيل بمداواة جراح الرمال، يقول في خاتمة الكتاب: “إن التاريخ لا يمنح امتيازا للمستكينين إلى القناعات الكسولة، كانوا في هذا الاتجاه أو ذاك، لكن من خلال النظر إلى ما وقع بالصحراء حقيقة، برغم جرد كل الأخطاء، فإن جهدا تنمويا كبيرا وقع بأقاليمنا الجنوبية، وتبدو المنطقة واعدة لتحقيق مصالحات كبرى مع أبناء أمتنا وإخوان من أسرنا في الجهة الأخرى ومن خلاله مع هذا الامتداد في العمق الإفريقي، لكن الأمر يحتاج إلى شجاعة أخلاقية كبرى، تزيل وشم وآثار الجراح المتراكمة بالمنطقة، وضمن كل الحلول الواقعية الممكنة والمنصفة، يعتبر مشروع الحكم الذاتي الحل الأقل سوءا.. فتعالوا إلى كلمة سواء!”