حين يحكي بحارمغربي بتلقائية عن مغامراته الشيقة والواقعية على متن سفينة تجارية أجنبية رست بمختلف المرافئ العالمية.
.عبداللطيف الكامل
ألف القراء واعتادوا قراءة مذكرات عن حياة المبدعين أوالفنانين أوالمثقفين أو الساسة والقادة لما لدى القراء من رغبة أكيدة وملحة لمعرفة أشياء كثيرة وخفية عن أسرار وتفاصيل وجزئيات حياة هؤلاء العظماء الذين استجابوا إما لرغباتهم في الحكي والبوح لتوثيق جزء من حياتهم في الماضي أو رغبات الآخرين من معارفهم وأصدقائهم،فانطلقوا يسردون حياتهم في الماضي على شكل مذكرات وسير ذاتية مساهمة منهم في التوثيق لما جرى في الماضي من جهة والتأريخ لمرحلة مضت عاشتها الشعوب من جهة ثانية.
لكن الإستثناء في كل هذا هو أن القراء لم يعتادوا التعرف عبرالقراءة والكتابة على تفاصيل حياة بعض البسطاء من المهنيين والمغامرين ممن عاشوا مواقف خطيرة وهاجروا واغتربوا عن وطنهم ونزلوا بأمكنة بعيدة بموانئ ومرافئ عالمية وعاشروا جنسيات مختلفة.
وكان هذا هو حال البحار المغربي السوسي محمد أرحاي (أوراحت)ابن مدينة أكَادير ،الذي امتلك شجاعة نادرة في الحكي والبوح عما خاضه وعايشه في حياته المهنية كبحار على متن سفينة تجارية أجنبية عاش خلالها مغامرات شيقة وخطيرة حاول تذكرها حين اعتصر ذاكرته وجعلها تتداعى لتحكي لنا بتلقائية عن كل شيء وبدون رقابة ذاتية،تحكي عن أشياء ترسبت وترسخت في مخيلته وبقيت إلى الأبد.
وجاءته فكرة الحكي عن هذه الحياة البحرية ومغامراتها لما راودته كثيرا أثناء تقاعد عن المهنة،ورست سفينة مغامراته أخيرا بمسقط رأسه بأكَادير،ففكر تدوين حياة الماضي لاسيما وأن بصيص ومضات تلك الذكريات لم تبارحه في تقاعده وأن هدير أمواج المحيطات والبحار التي قطعها منذ أزيد من ثلاثين سنة لم يفارقه بل بقي كل شيء منها يرن من حين لآخر في أذنيه،بل لازالت ذكريات الماضي الراسخة في مخيلته تتراءى له بين الفينة والأخرى بين عينيه وتأبى أن تنمحي.
ولهذا أصرأخيرا،وكما قال في مقدمة مذكراته،على القبض على بعض ومضات ذكريات الماضي من خلال تقييدها بالكتابة والحكي والبوح فكان له في النهاية هذا العمل الأدبي الشيق حين فكر أن يحكي لنا بتلقائية وسلاسة استثنائية ما عاشه من مغامرات ومخاطر طوال 30 سنة بأسلوب أدبي ممتع للغاية.
كما أن فكرة البوح عما يعتمل في دواخله من مكنونات وأسرار،في هذا العمر من أجل شيء واحد تقاسم هذه التجربة مع قرائه من جهة وتخليص نفسه من تداعيات تلك الومضات والإعصارات التي تنتابه من حين لآخرمن جهة حيث استغل فرصة إحالته على المعاش لكتابة سيرة حياته المهنية،بعد أن عاش رحلات سندبادية بحرية قادته إلى أعظم المرافئ والمواني العالمية مبحرا في سفينة تجارية ضمن طاقم أجنبي من مختلف الجنسيات.
وهكذا سيحكي محمد أوراحت في هذه الرحلة البحرية عن مغامرات خطيرة حينا ومسلية ومضحكة حينا آخر،وسيسرد جزئيات من حياته وحياة الآخرين ممن تقاسموا معه هذه التجربة وعاشروه على متن السفن التجارية الأجنبية من جنسيات مختلفة مثل أدريانو من جزر الرأس الأخضر،والمصري المنحدر من دمياط والألماني الطباخ الماهر،والتركي نجاة كومنيوك والغاني أدو كواميني والبرتغالي الهندي تشيرا والإسباني انطونيو فالفريدي… ويحكي أيضا عن أحداث عالمية عاشها العالم من منتصف السبعينات من القرن الماضي إلى بداية الألفية الثالثة.
وظل البحر بامتداده وزرقته الصافية وهديرأمواجه وهيجانها ولغزه أشياء تسكن دوما كيان ووجدان هذا البحار الذي لم يجد بدا من نسيانه،ولم يسعه بمخطابته إلا بكلمات مقتضبة لكنها دالة:”وداعا أيها البحر،في صمتك يعيش النسيان والخوف،في قدسيتك تسبح ألغاز الكون،وداعا أيها البحر”.
ومن خلال عناوين هذه المذكرات التي طبعها مؤخرا في نسخة أنيقة في 125 صفحة ،تحت عنوان “مذكرات بحار”يمكن القول أن البحار(اوراحت)حاول أوراحت أن يجعل القارئ يبحرمعه على مركبه ليعيش معه ذكريات الماضي بكل جزئياتها الصغيرة ويتعرف من خلال كل رحلة البحرية على مرافئ وموانئ عالمية بمختلف القارات،وعلى المغامرات التي عاشها ويعيشها زملاؤه من البحارة الأجانب .
فعناوين النصوص الآتية “الإبحار…واختزال الرجولة”،”رحلة نحو المجهول” ،عود على بدء”،”بداية المغامرة في بلاد المهجر”، “لأغامر من جديد”،”بطاقة الصمت”،”أنا والبحر”،”درس دام أسبوعا”،”التأهب والإستعداد الدائم للسفر”،أهل العنبر اثنان وثالثهم كلبهم”،البحار في جميع اتجاهات البوصلة”،”في مواجهة إحدى العواصف الجارفة”،”في الدفاع عن الهوية والوطن”،في “بيروت المكلومة الجريحة”وغيرها قد تم اختارها بدقة وعناية.
ذلك أن لكل عنوان حكاية خاصة وموقفا وحدثا تاريخيا عاشه العالم في الماضي،كحدث العمليات الفلسطينية الفدائية(مذبحة مستودع الملابس بملعب ميونيخ في الألعاب الأولمبية 1972)،وحرب أكتوبر1973،وحدث المسيرة الخضراء في منتصف السبعينات واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1977،واجتياح الجيش الإسرائيلي ومحاصرته لمدينة بيروت في بداية الثمانيات من القرن الماضي،وما تلا ذلك الإجتياح من مذابح آنذاك أشهرها مذبحة”صبرا وشاتيلا”سنة 1982.
فضلا عن حدث الغزو الأحمر،وقدسية الكتاب الأخضر للقذافي،ومملكة القذافي سابقا والإقامة الجبرية داخل السفينة بموانئ إسرائيل…وغيرها من الحكايات التي توثق لأحداث تاريخية حقيقية وقعت في الماضي.
فالبحار محمد أوراحت وكما قال الكاتب والإعلامي يوسف الغريب في استهلاله لهذا العمل، “يحدثك بحميمية عما وقع له،ستضحك أحيانا،وستصاب بالدهشة أحيانا أخرى ،بل ممكن أن تبكي حتى حين ستدرك بوعي يقظ ذاك البعد الإنساني الذي يلف بعضا من محطات مساره بواسطة حكي تلقائي آخاذ،وهنا لن تشعر أبدا أنك قارئ،وإنما شريكه في السفر في محطات متباينة”.
وفي كلمة تقديم الكاتب لهذا العمل قال محمد أورحت:”مضمون هذا الكتاب هو تجميع من المقالات التي حكيت فيها بعض مغامراتي التي عشتها خلال مساري المهني،أي تجربة تراكمية لحوالي ثلاثة عقود من الزمن وهي أحداث واقعية ولامجال للخيال فيها”.
مضيفا أن”القليل من الإخوة الذين عاشوا وقاسوا مرارة الغربة التي راكمتها خلال ثلاثة عقود من الزمن،فهي غربة ثقيلة نفسيا وجسديا بكل ما تحمله الكلمة من معنى إذ خلال ثلاثة عقود كنت في أغلبها وحيدا وسط أطقم تضم ثلاث إلى أربع جنسيات مختلفة،وكنت الأمازيغي –الإفريقي وسطهم”.
وقال:”لقد كان علي أولا أن اتقن لغاتهم جميعا،كما كان علي أن أتعرف على كل شيء عنهم،ديانتهم ،ثقافتهم وعاداتهم وذلك من خلال قراءة كتب ومراجع،وكان علي أن أتقن أبجديات المرافعات بحيث اضطرت أن أدافع بما كل ما له صلة بنفسي كمسلم وكمواطن من الوطن العربي”.
بل أجد صعوبة أحيانا،يضيف الكاتب،”في إقناع زملائي من الأجانب بحقيقة وأسباب بعض المواقف والعمليات التي يقوم بها العرب ضد أعدائهم”فمثلا خلال عملية ميونيخ الألعاب الأولمبية سنة 1972 والتي قام بها كوماندو فلسطيني،كان علي أن أشرح لهم بواعث وغايات القضية الفلسطينية وأن الشعب الفسطيني ليس من قتلة،بل من مدافعين ومناضلين عن قضية كباقي الشعوب التي واجهت الإحتلال”.
وفي كلمة مقتضبة قدم الأستاذ بوشعيب الأسعد،هذه المذكرات بقوله”بتركيز كبير تصفحت الأوراق التي حاولت من خلالها إثارة الحديث عن بعض ذكرياتك في بلاد المهجر والغربة وأنت شاب يافع متخرج من المدرسة البحرية تريد المغامرة عبر الإشتغال كبحار في عدة سفن وبواخر تديرها شركات عالمية…”.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن كتابة “مذكرات البحارمحمد أورتاحت”كانت بتشجيع من جمعية “إيزروان نودكَادير”،التي تبنت العمل وطبعته على نفقتها من أجل التوثيق لكل ما له علاقة بتاريخ مدينة أكادير وأبنائها إسهاما من ذات الجمعية في مقاربة الإرث المحلي وتشجيع الباحثين على التوثيق والتأريخ لكل الحكايات والأحداث المرتبطة بالمدينة وأحوازها.
وكان مكتب الجمعية قد اتخذ قرارا نوعيا بالإنتقال إلى ترسيخ بعض مظاهر الإرث اللا مادي لمدينة أكَادير وأحوازها من تركة شفوية في تناول الماضي المشترك إلى ضرورة التركيز على الأسلوب الكتابي في مجتمع اعتاد أساسا الحكي والتذكر عن الماضي.