نوستالجيا : بقلم أنس رشيدي … انتخابات الزمن الجميل …
إنها الحملة الانتخابية التي كانت تستقطب اهتمام ساكنة حي القصبة وأكدال بداية الثمانينات، ملصقات المرشحين تظهر هنا وهناك قرب أبواب المدارس، على جدران الأزقة والدروب الضيقة. أوراق مبعثرة على الطرقات بألوان مزركشة، تحمل البرامج والوعود الكاذبة. بمجرد سماع هتافات الأنصار، نترك اللعب ونلتحق بتلك الكوكبات؛ لنردد معها الشعارات التي تمجد ممثلي الأحزاب، تطرق أبواب المنازل لكسب التأييد والدعم. تختفي المجموعة التي غالبا ما تشمل عائلة وجيران المرشح ، فنجاحه هو مكسب للمقربين بالدرجة الأولى للاستفادة من امتيازات الوساطة. ننتقل بعد ذلك إلى لون وحزب أخر لنجوب معه الساحات والطرقات، ونحن نستمتع بجو المرح والتسلية. نعود في المساء وأصواتنا مبحوحة بسبب الصراخ الذي شكل لنا متنفسا لتفريغ شحنات الغضب، وكسر حواجز القمع، وفرصة كذلك للتمرد على صمت العشيرة.
يعقد الحزب الفلاني مهرجانا انتخابيا بحضور أحد ديناصورات قادته، يفتتح الزعيم خطابه كعادته بالحمد لله والصلاة والسلام على النبي العدنان. يشكر الحضور الكريم على تلبية الدعوة، ثم يستعرض الإنجازات والتضحيات الجسيمة التي قدمها مناضلو الحزب الشرفاء الذين عذبوا في السجون، وهجروا إلى أدغال إفريقيا من أجل استقلال المغرب، ودفاعا عن الهوية الإسلامية و العربية. سجلنا فلذات أكبادنا بمؤسسات البعثة الفرنسية، وبعنا الغالي والنفيس ليتابعوا دراستهم بأكبر المعاهد والكليات ببلد المستعمر الغاشم. لا لشيء سوى إتقان لغة العدو، وفهم تكتيكاته ومراوغاته؛ ليتمكنوا بعد ذلك من طرده والتربع على كراسي المسؤولية، حتى ينعم المغرب بالخير والنماء والازدهار. الرحمة والمغفرة لشهدائنا الأبرار، والمجد والخلود لأبنائكم الجنود البواسل المرابطين بالأقاليم الجنوبية. بسم الله مرساها ومجراها، فلنتوكل على الله ولنعمل كل حسب موقعه….وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون…صدق الله العظيم.
تبدأ موجة من التصفيق الحاد لدقائق طويلة، تتخللها زغاريد النساء وهن متزينات بلباس الأعراس (تكشيطة)، فيما بعض الرجال يرتدون الجلاليب المخزنية والطرابيش الوطنية. يتقدم المرشح وسط المنصة وهو يحيي الجمهور على طريقة جمال عبد الناصر. حديثه نسخة طبق الأصل لتلك العبارات المملة التي كان يرددها الإعلامي مصطفى العلوي، والتي كانت تحبس أنفاسنا عندما تستمر للحظات طويلة، وتحرمنا من متابعة مسلسلاتنا المفضلة؛ لذلك كرهت هاته الخطابات، أسب وألعن السياسة وأهلها عندما تظهر المذيعة بابتسامتها المستفزة، وهي تعلن عن نهاية الفرجة نظرا لضيق الوقت. تثور أمي في وجهي غاضبة (سكت يسكتلك الحس..) فيما أبي يقول لي: (يلا سمعوك وداوك لبنيقة ما انت ولدي مانا باك…). إنه التعبير عن الخوف الذي كان يتملك الأهالي عندما يتحدث الأبناء في المحضورات زمن سنوات الرصاص.
هناك في الجهة المقابلة، ينظر أصحاب اللحي و(القشابات) القصيرة والنعال المتآكلة لهذا التجمع نظرة استهزاء وسخرية، وكأن لسان حالهم يقول: ما هذا الهراء يا قوم تبع؟ عن أي ديموقراطية تتحدثون؟ ومتى كانت السلطة بيد الشعب زمن السلف الصالح؟ إنزعوا عن عيونكم الغشاوة، واستفيقوا من سباتكم العميق. فلا سلطة ولا حكم إلا لله الواحد القهار لا شريك له. فلنطبق شرع الله، ولنحكم بكتاب الله. ومن لم يلبي النداء سوف يأكل من الزقوم و يشرب شرب الهيم. توبوا إلى الله جميعا، وبايعوا علماءنا وشيوخنا والصالحون الأخيار منا، فهم حماة الوطن والمخلصون من كل المحن.
من بين الوعود التي كان يغدق بها المرشح بسخاء في حالة فوزه، هو استعداده أن يعيد هذا الحي إلى سالف عهده، عندما كان حديقة للأمراء في زمن السلطان المولى اسماعيل. التفت إلى صديقي وقلت له: إن كان عمنا صادقا في كلامه، فلن نصاب بعد اليوم بتلك الجروح والتوعكات جراء السقطات المتتالية فوق أرضية لمنيجيرة. (يتوب… غادي يولي عندنا تيران بحال ديال باري سان جيرمان فأكدال…مكاين غير المسوطيات والكوتسيزويات….).
كبرنا ولم يعد للمنيجيرة أثر بعدما اختطفتها وزارة الصحة، تلك الساحة التي احتضنت أحلام طفولتنا البريئة، وشهدت أفراحنا وأحزاننا. نحتفل بالفوز ونتعانق، نواسي بعضنا ساعة الإخفاق، بعيدا عن الضحكات الصفراء، ودموع التماسيح، والتملق، والكذب، والبهتان والخداع الذي ألفناه من قادة الأحزاب و السياسيين .