ما هكذا تورد الإبل… في الفنانين والجائحة:بقلم -الدكتور عزالدين بونيت-
سمع أحدهم بنقابة للفنانين كاتبت رئيس الحكومة تنببه ومن خلاله تنبه لجنة اليقظة المحدثة لتتبع آثار الوباء، إلى وضعية الهشاشة الفعلية التي تعيشها فئة من فناني العروض الحية جراء توقف عملهم النهائي بسبب الإجراءات الوقائية المتخذة للحد من انتشار الوبا، الأمر الذي يجعلهم في وضعية بطالة تقنية كاملة. ولأن ذلك السامع تعود على الاقتيات من خلق البوز حول مواضيع تهم بعض المشاهير أو تتصل بقضايا تشد انتباه الرأي العام من حين لآخر، فقد وجد الفرصة مواتية لتناول موضوع الفنانين وصندوق التضامن وجدوى الفن في زمن الوباء بل وفي كل الأزمنة. وأطلق لسانه يعيث في أعراض الفنانات والفنانين بالسب والشتيمة المباشرة والدعوة إلى محقهم وطردهم من الوطن والمواطنة وما إلى ذلك من أشكال الاستعداء السوداء.
رأي هذا الشخص وقوله لا يستحق أي رد أو مقارعة. لكن ما جرى بعد ذلك يستحق أن نقف عنده. فقد سمع بعض السامعين ما قاله السامع الأول فانبروا خلفه سائرين على النهج الذي رسمه. ثم انتقل القول إلى سامع السامعين ومن سمعهم بإسهاب إلى يوم الناس هذا، وكلهم يرددون، فيما يشبه جوقة المتبتلين، مقالة السامع الأول. ومنهم من أضاف إليها من الحجج والبراهين ما لم يكن السامع الأول قادرا على حشذه وتأصيله. فهم ذوو رأي وقول وحصافة.
لقد صرنا بقدرة قادر، أمام رأي عام يتشكل، وفي صفوف من يضبطون إيقاعه مثقفون وأهل دراية أخذ ببعضهم قلقُ الحجر الصحي ومئاتُ التقارير الإخبارية التي لا يظهر فيها إلا أطباء وممرضون وشرطة وعدد من رجال السلطة ونسائها الشقراروات، حتى اسودت الدنيا في أعينهم، فظنوا ان محور الكون الآن وبعد الآن هو المستشفيات ومخافر الشرطة وآليات التنظيف التي تجوب الشوارع الفارغة..
هكذا تبلورت الفكرة التي تقول إن أزمة كورونا أظهرت الاحتياجات الحقيقية لبلدنا وللإنسانية جمعاء: الأطباء ثم الأطباء ثم الأطباء، والسلطة والشرطة والعسس والمهندسون المخترعون. أما الفنانون والرياضيون، فإلى الجحيم..
لن أدافع عن الرياضيين، فللرياضيين رب يحميهم، بل سأركز حديثي على أحوال الفنانين التي ظهر لي من خلال ما قرأت في الموضوع أن غالبية المغاربة يجهلون تفاصيلها.
لنبدأ بالمنطق الذي يسوغ هده الحملة: هب أن ما يقال عن عدم جدوى الفنانين في هذا الظرف صحيح (وهذا افتراض لايستسيغه إلا مجتمع يعيش هشاشة ثقافية لا تتيح له بناء عوالم رمزية تتغذى بالتجريد الفني وبرؤية جمالية للعالم) فهم لن ينقذونا من كورونا في المستشفيات، ولن يستطيعوا إجراء بحوث مخبرية لتطوير اللقاح المطلوب، ولن يحلوا محل الشرطة والدرك وأعوان السلطة في الشوارع والمخافر.. لكن هل عدم الجدوى هذا يصدق فقط على الفنانين؟ أم أنه يمتد أيضا إلى الصباغين والميكانيكيين والنجارين وباعة الاسفنج، بل وحتى ربابنة الطائرات وقابضي الضرائب والمحامين المتحصصين في القانون التجاري، بل أيضا أطباء الأسنان وأطباء البواسير وأطباء الجهاز الهضمي، وبقية الاختصاصات التي لا تنفعنا اليوم في مواجهة كورونا.. هذا منطق متهافت بالتأكيد وفيه بعض الطفولية في وزن الأمور.
أما الفنانون الذين نبهوا الدولة إلى هشاشة وضعهم من خلال لجنة اليقظة، فلم ينتظروا أزمة كورونا كي ينبهوها؛ بل دأبوا على ذلك منذ عدة سنين، وهم يطالبون بتمكين البلد من سياسة ثقافية تتيح لهم أن يعيشوا من عملهم الفني بكرامة ودون حاجة إلى تسول الإكراميات كل حين. وكانوا وراء عدد من المبادرات التي أدت إلى إرساء إجراءات تشريعية وتنظيمية تتيح بعضا من ذلك.
الفنانون المعنيون هنا هم فئة الأجراء المياومين الذين يعملون بقوة أجسادهم لإنجاز عروض فنية حية أو مسجلة لقاء أجر فني في إطار عقود شغل محددة المدة (CDD) والذين يعتبرون في الآن نفسه عمالا وجزءا من السلعة. وهذه خاصية اقتصادية يتفرد بها الميدان الفني عن غيره من الميادين. ويعتبر عملهم من الأعمال المتسمة بالهشاشة البنيوية، لمحدودية مدتها الزمنية في الزمن الإداري وأيضا في الزمن البيولوجي. فممثل دور البطولة، الذي يكون في الأعمال الدرامية في العادة شابا، ليس أمامه من الناحية البيولوجية إلا سنوات محدودة يمكنه خلالها نظريا القيام بهذا الدور. وواتجاهات الذوق الفني تجعل الأعمال الفنية بصفة عامة تخضع لتقلبات تعصف بسرعة بفرص العمل. أضف إلى ذلك هشاشة الحياة الثقافية في بلدنا والتي تتسم بالفقر الفني عموما وبقلة فرص الشغل وليالي العروض. إذا أضفنا كل هذا إلى حالة الشلل التي تعرفها البلاد حاليا، فسندرك أن كثيرا من هؤلاء الأجراء هم الآن عاطلون ولا دخل لهم، ولا تغطية اجتماعية ولا راميد.. هذا هو الواقع.
عموم المتدخلين في نقاش هذا الموضوع، لا يميزون بين الفنان وصورة الفنان. الفنان ليس هو تلك الصورة التي يرونها في التلفزيون وعلى خشبات المسارح أو منصات العروض. تلك صورة وهمية تعطى الانطباع بأن الشهرة مترجمة في شكل بحبوحة ورخاء.
من جهة أخرى، هناك خلط بين الفنان والنجم: النجم ظاهرة صناعية تجارية لا علاقة لها بمهنة الفنان: ليس كل الفنانين نجوما، وليس كل النجوم فنانين. النجوم على وجه العموم قلة قليلة جدا بين الفنانين. ولنفهم الأمر بوضوح نأخذ مثالا من مجال الغناء والموسيقى: الناس في العادة يعرفون المغني وينسون أن هذا المغني كي يتمكن من اعتلاء المنصة وأداء الأغنية يحتاج أحيانا إلى عشرات الفنانين الذين لن يذكر أحد أسماءهم، هم العازفون، فضلا عن كاتب الكلمات والملحن والموزع؛ وهؤلاء جميعا لن يذكرهم أحد.
نقطة أخرى نوضحها لنختم كلامنا: هناك دائما خلط بين الفنان الممثل أو العازف الذي يسمى فنان الأداء، وبين المبدعين الذين يؤلفون الكلمات والألحان والنصوص الدرامية ويصممون السينوغرافيا أو الإخراج، وهؤلاء يصنفون في خانة المؤلفين. وفي الأعمال الدرامية التي تقدم في التلفزيون أو السينما، ولا سيما إنتاجات صناعة الضحك الرمضانية (وهي، بالمناسبة صناعة تجارية وليست فنا، بالمعنى الجمالي) ينسب الجمهور إلى الممثل كل مآخذه على العمل الفني الذي يشاهده،ويحاسبه عليها، بينما هو مجرد عامل بأجر من أجل تنفيذ جزء محدد من عناصر العمل الفني. المسؤولية الأولى والأخيرة في العمل ومضمونه وشكله، تقع على عاتق المنتج والمؤلفين الذين ذكرت أصنافهم أعلاه. وهؤلاء لا يظهرون على الشاشة ولا يعرف كثير من المتفرجين حتى بوجودهم.
لذلك، إذا أردنا أن نناقش جانب المضمون والقيمة الفنية فالمخاطب ينبغي ان يكون هو المنتج والمؤلف وليس الممثل او العازف او الراقص. هؤلاء ينفدون ما يطلب منهم لا أقل ولا أكثر. قد يقول قائل: كان عليهم أن يعترضوا ويرفضوا المشاركة في أعمال لا تعبر عن ذوقهم الرفيع. أقول: سيكون هذا شبيها بمطالبة عامل بناء أو صباغة برفض العمل في مشروع بناية لا يوافقان على تصميمها أو موقعها. هذا يعني ببساطة: العطالة.والأمر نفسه يمكن قوله عن المبرمجين العاملين معشركات البرمجيات العملاقة او مع شركات الاتصالات التي تستنزفنا.
من أراد أن يعرف تصورات الفنانين الدراميين ورؤاهم الفنية فليلتمسها بالأحرى في أعمالهم المسرحية، حيث يكونون أقرب إلى بعضهم، وأكثر قدرة على التواطؤ الفني. أما الدراما التلفزية والسينما فآلياتها الإنتاجية تتجاوز حدود قدرتهم على التدخل. وفي المسرح أشهد أن معظم فنانينا منتمون إلى أسئلة محرقة مثل بقية المغاربة.