الباكالوريا، الشهادة المصيرية التي تحيط بها هالة من التقديس..!!
بقلم : ذ. عادل بن الحبيب
تعيش الأسر المغربية في نهاية كل عام دراسي على إيقاع نتائج امتحانات الباكالوريا، فتتعالى أهازيج الفرح في بيوت كثيرة، وتغرق بيوت كثيرة أخرى في صمت الحسرة والشعور بالخيبة. ذلك أن التعليم مازال يعتبر أحد شروط النجاح في الحياة، ومقياسا أساسيا لتقييم مكانة الفرد في المجتمع، ومازال المغاربة يبذلون الغالي والنفيس من أجل تفوق أبنائهم ويعتبرون ذلك علامة من علامات نجاحهم هم كأولياء في حياتهم الشخصية وانعكاسا لمكانتهم الاجتماعية، ومظهرا من مظاهر التباهي والافتخار.
وإذا كان المجتمع يحتفي بالناجحين وييجل المتفوقين ويكرم الفائزين فإنه كثيرا ما يظلم المتعثرين وأولئك الذين لم يوفقوا في تحقيق النتائج المرجوة والمنتظرة منهم . ويتجلى الظلم في الاعتقاد المنتشر لدى فئات كثيرة بأن الاخفاق المدرسي هو علامة فشل وهزيمة، وفي تحويل نتائج الامتحانات من معطيات موضوعية تتطلب التحليل والفهم والمعالجة إلى أحكام معيارية تفضي إلى وصم اجتماعي وتربوي بالخيبة يطال أعدادا هائلة من أبناء المجتمع وبناته ويلقي بهم في دائرة الإبعاد والإقصاء. و الغريب في الامر ان التفوق الدراسي اليوم لم يعد يقتصر على النجاح فقط و انما ارتبط مفهوم النجاح اليوم بضرورة النجاح بميزة حسن جدا و أن أي نتيجة غير ذلك فهي اخفاق.
لقد أثبت علم الاجتماع منذ ما يزيد عن أربعة عقود أن المدرسة تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي و ان قدرات التلاميذ في التحصيل متفاوتة ، وأن الحظوظ ليست متساوية بين الطبقات الاجتماعية في التحصيل العلمي والحصول على الشهادات و من ثم الارتقاء في السلم الاجتماعي، وتكفي نظرة سريعة على خارطة توزيع نسب النجاح في امتحانات البكالوريا للوقوف على ذلك. ولكنّ هذا المنظور لا يكفي لوحده لفهم خارطة توزيع الإخفاق المدرسي. وذلك لأن أبناء المناطق المحــرومة اجتمـــاعيا لا يقلون عن غيرهم من أبناء المناطق المحظوظة في المدارك والطاقات والاستعدادات والمؤهلات المعرفية، ولكن تعوزهم وسائل التحصيل المعرفي وجودة وسائله وظروفه المساعدة. فالنجاح ليس خصلة كامنة وليس موهبة فطرية يتمتع بها فرد دون آخر، كما أن الإخفاق ليس جبلّة أو قدرا محتوما. الأمر لا يتعلق إذن بخارطة لتوزيع الموهبة والذكاء بقدر ما هي خارطة لتوزيع الحيف الاجتماعي.
الإخفاق المدرسي ظاهـــرة شـــائعة في كل المجتمعات، ولكن الاختلاف يكمن في التعاطي معها وفي التعامل مع التمثلات الاجتماعية للنجاح والفشل. كما أنها ظاهرة مركبة ذات أبعاد اجتماعية وتربوية جماعية وأخرى نفسية- فردية. وعلى السياسات التربوية أن تأخذ بعين الاعتبار أن توفقها في معالجة هذه الظاهرة شرط أساسي لتطوير ثقافة النجاح وتحقيق النتائج الإيجابية. وتكون البداية بإزالة الحكم المعياري عن الإخفاق الدراسي والكف عن اعتباره فشلا ذريعا وإعاقة دائمة، والنظر إليه في أبعاده المتعددة.
ويأتي في مقدمة هذه الأبعاد المحيط الاجتماعي والسياسة التربوية المتبعة وطبيعة المناهج المعتمدة من حيث مضامينها واتصالها بالواقع الاجتماعي ومتطلبات العصر، وإعادة النظر في الأساليب البيداغوجية ونظم التقييم و وإسناد الشهادات. وكل ذلك رهين المشروع المجتمعي الذي نحمله ونحلم به لأجيالنا الصاعدة. ماذا نريد لأبنائنا؟ ماذا أعددنا لهم؟ كيف نرافقهم في مسيرة حياتهم المحفوفة بشتى المخاطر والمزروعة بمختلف العقبات والصعوبات وعوامل الإحباط واليأس؟ تلك هي الأسئلة الحقيقية وتلك هي المسألة. وإن مسؤولية المدرسين في هذا السياق لجسيمة، باعتبارهم أحد أهم الفاعلين في عملية التنشئة عموما وليس فقط في العملية التعليمية.. لن يجدينا نفعا أن يرمي بعضنا المسؤولية على البعض الآخر فالكل مسؤول ، فمظاهر اللامبالاة بالدراسة والعزوف عنها ليس معطى فطريا يولد مع الفرد بل هو نتيجة لعوامل مختلفة. فكم من تلميذ متميز حاصل على أعلى المعدلات في الابتدائي يتحول إلى مشاغب متقاعس لا يطيق المدرسة ولا يحفل بكتاب بمجرد انتقاله إلى المستوى الثانوي، وكم من تلميذ خرج من المراتب الأخيرة كالسهم يحقق الإنجاز تلو الآخر في حياته الدراسية والشخصية.
صحيح أن الإخفاق المدرسي تجربة مؤلمة نفسيا واجتماعيا باعتبارها تعاش كذنب أو كعاهة ولكنها يجب أن تؤخذ كدرس تُستخلص منه العبر للمضي قدما. وإن من مسؤولية المدرس أن يعتبروا نفسه المسؤولين الأول عن تحقيق نجاح تلاميذهم ، وأن من صميم وظيفته تجاوز هذه التعثرات، فالتعاطي مع التلاميذ بمنطق الانتقائية المفرطة والتقييم الآلي الذي لا يعطي الفرصة الثانية والثالثة هو تعميق لمآسي التربية والتنشئة التي تعيشها مجتمعاتنا. فعندما يجد التلميذ نفسه خارج المدرسة معنويا وماديا فإنه سيمضي إلي مسالك الانحراف والجنوح…والأسر التي تعاقب أبنائها وتحقرهم بمجرد التعثر في تحقيق نتائج مدرسية كما ينتظرها الأولياء تساهم في تعميق شروخ نفسية عميقة وجراح معنوية لا تندمل بسهولة وتؤثر على باقي مسار الحياة.
مجتمعنا بحاجة لمدرسة تزرع الأمل و تتيح الفرص وتبني الجسور الممدودة وتمهد المسـالك المفتوحة، حتّى لا ننتـــج المزيد مــــن الشبــاب المصــنـف في دائـــرة الشباب بدون شغل ولا تعليم ولا تدريب…فتكون الخيبة العظمى والإخفاق المجتمعي الأكبر.
والخطوة الأولى لمساعدة أبنائنا على التعامل مع صدمة الاخفاق في امتحان الباكالوريا هي أن نسيطر نحن على غضبنا، وألا نعبر عن ردود فعل غير متزنة أمامهم، ففي حال رسوبهم، نسمع بعض العبارات مثل : “لم أكن أتوقع منك ذلك”، “لقد خذلتني”، “انظر كيف نجح أقرباؤك”، “لقد فضحتني”، كل هذه العبارات تقودنا إلى الحديث عن مكان الابن في دائرة الاهتمام؛ فحين يكون الإبن هو مركز الاهتمام بالنسبة لنا، فإننا نهتم بمشاعره ونمنحها أولوية على مشاعرنا. أما حين تكون مشاعرنا هي مركز الاهتمام، وكل ما يهمنا هو صورتنا التي نتخيل أنها تشوهت نتيجة الحدث، فإننا لن نعبأ بحاجاته أو صحته النفسية، وسنقوم بتعريضه لمشاعرنا، والتعبير عنها بطريقة سلبية، وهو ما يسمى بالاستغلال العاطفي للأطفال، وهو أحد أشكال العنف النفسي المعروفة.
أما الخطوة الثانية المهمة، فهي الإصغاء الجيد ومساعدته على التعبير عن مشاعر الغضب، والحزن، وحتى يكون هذا الاستماع فعالا ويساعد على تنفيس الغضب، فينبغي أن يتم بدون النقد والحكم على مشاعره، أو لومه وتأنيبه، فمن الطبيعي أن يحمل الأبناء ردود فعل غاضبة وحزينة ويشعروا بالفشل والخذلان. وهنا يمكن أن نقول للطفل: “أنت حزين جدا بسبب الرسوب”، “أرى أنك غاضب جدا”، “ربما تشعر بالخذلان بسبب الرسوب”، استخدام هذه العبارات بنبرة من التعاطف والتفاهم سيساعده على الانفجار والتعبير أكثر عن مشاعره. وعلينا أن نخبره أن هذه المشاعر طبيعية وأننا نتفهمها ونتفهم حقه بالشعور بها، مع التركيز على التواصل البصري معه، والإيماء بالرأس والابتسام.
وعلينا أيضا أن نتفهم ونوضح له أنه ليس الحدث بعينه هو ما يتسبب لنا بالغضب بل طريقة تفكيرنا في هذا الحدث، وأنه ليس كارثة ستقلب حياتنا، وأن تطوير نظرة مختلفة تجاه الحدث ستساعد جدا في تجاوزه. وهنا يمكن أن تقول للطفل: كيف سيؤثر هذا الأمر في حياتك؟ هل سيجعلك تفقد أسرتك؟ أو تفقد أصدقاءك؟ نعم هو صعب ومحزن ومؤسف، ولكن ألا ترى أنه يمكننا أن نعمل معا لوضع خطة لتجاوز الموضوع والنجاح في السنة المقبلة؟ دعنا نفكر معا ماذا يمكن أن نفعل؟
كما علينا ان نعبر له عن مشاعرنا الحقيقية تجاه رسوبه، حتى لا تبقى مشاعرنا بالنسبة له أمرا غامضا، ويبقى خائفا من موقفنا منه، أو من تأثر حبنا له بهذا الأمر، وهنا يمكنك أن نقول له: أنا أيضا أشعر بالأسف والحزن لأنك لم تنجح، ولكن هذا لن يؤثر في حبي لك، وأنا أؤمن أن بإمكاننا العمل معا حتى ينجح الأمر في العام المقبل، هذه الأمور تحدث ويمكننا تجاوزها.